تمرض الذاكرة وتنسي نور الهدي اياما واسابيع وربما شهورا، حتي يطل صوتها من مذياع او شاشة تلفاز عن طريق الصدفة، وهنا فقط ننتبه أننا تآمرنا عليها بالنسيان غير المقصود، وراكمنا ظلما آخر فوق تلال من النكران ساهم في تضييق حلقات العزلة والاكتئاب التي عاشتها في اخيرات ايامها عندما كانت تسترجع سنوات الازدهار التي جاوزت العشرة أعوام بلغت فيها أعلي درجات النجومية وكادت أن تحلق وحدها لولا أمور لم تفسر بعد، ولم تأت اجابات شافية علي كثير من علامات استفهامها. نور الهدي حالة خاصة واستثنائية من بين كل المطربات اللاتي عملن بالسينما, وملمح الخصوصية هنا أنها بدأت نجمة وانتهت نجمة، ولم يشهد تاريخها السينمائي والغنائي تراجع، بل ظلت تصعد درجة تلو الأخري، وتضيء قبس يتلوه آخر. تملك وجه بشوش مبتسم تفوح منه رائحة الفكاهة وخفة الدم الطبيعية التي تضاهي بها نجمات الكوميديا، فعندما تقف أمام زينات صدقي في مونولوج تمثيلي يتم التعاطي واحدة بواحدة دون ابتذال او اسفاف، عينيها تحمل الانطلاق والاقدام، ويلمح الناظر إليها شجن وحزن عميقين يسهلان كثيرا ايصال المعني عندما تتصدي لأغنيات الهجر والعذاب، تملك نسب جيدة من الجمال، لكن الجمال الحقيقي يكمن في ثقتها بنفسها ويتخطي حدوده دون اعلان او افتخار فج. لديها قدرة هائلة علي تسريب امكاناتها مع الوقت، ولا تفقد الانطباع الأول الايجابي الذي يخترق القلوب دون جهد أو معاناة، ثم توالي الصعود والاحتواء. لا تفرط في العطاء دون مناسبة، ولا تختزن شيئا للصدفة، تدرك جيدا التوقيتات الصحيحة والمناسبة للعطاء. تملك مقومات صوت عالية ومتدربة قادرة علي اداء الاغاني الخفيفة والعاطفية والموشحات المولعة بالهجر والفراق، احساسها العالي بالكلمة واللحن يمكنها من القيادة الصحيحة للأغنية دون ان تتنازل عن التنويع والتجديد الذي يجعلها مختلفة عن الآخريات، عندما تقف أمام محمد عبد الوهاب أو فريد الاطرش أو محمد فوزي فهي ندا قويا وصوت نافذ معبر لا يستهان به ويحسب له ألف حساب. بارعة في التمثيل ومجتهدة لأنها تدرك أن صوتها الجميل لابد له من مقومات تمثيلية معقولة تدفعه نحول مكانة يستحقها، لذلك اضافت موهبتها الغنائية لقدراتها التمثيلية فأصبح الأثنان متعادلان ومتساويان يشدان بعضهما بعض نحو التألق والتميز. تبدو منكسرة وضعيفة لا تحمل أي مقاومة عند الهجوم، ربما تجعل الآخرون يعتقدون وهما أنها فريسة سهلة يمكن التهامها، لكنها تنتفض فجأة لتلتهم كل من تسول له نفسه الحاق الاذي بها، ويتحول هذا الجسد النحيل الضعيف إلي كائن خرافي، تدافع عن كرامتها ولا ترضي الانحناء فتلقي احترام الجميع من يساندها ومن يحاول أن يفتك بها. تبدو البساطة والتلقائية احدي كلمات السر التي تنفذ بها إلي جماهيرها، فهي تكسي براءتها وعفويتها بطبيعية وصدق شديدين. عندما نتصدي للكتابة عن نور الهدي فلا يمكننا بأي حال أن يتسم سردنا بالمنهج الطولي لحياتها الفنية والشخصية، وسنضطر أن نقف عرضيا وخصوصا تلك الفترة التي عاشت بها في مصر والتي كونت واسهمت بشكل كبير في تاريخها الفني، بل لا نبالغ عندما نقول أن مصر شهدت اشهر عشر سنوات في عمرها من 1942 وحتي 1952، اسمها الحقيقي الكسندرا نيقولا بدران (24 ديسمبر 1924 – 9 يوليو 1998) ولدت في مرسين بتركيا، والديها من سكان بيروت، ارتبطا بقصة حب رفضت من قبل الاهل، وعندما اصر أهل والدتها علي زواجها من رجل آخر يكبرها سنا، هربت أمها وابوها إلي تركيا وتزوجا هناك، وانجبا اطفالهم الذين حملوا الجنسية التركية، وبعد عدة سنوات من الغياب، عادا مرة أخري إلي لبنان، وفي تلك الاونة كانت “نور الهدي” تبلغ عامين، وأمضت طفولتها في حي المزرعة، تفتح عينيها علي الغناء، فرغم أن والدها كان يملك معمل للبلاط ويشتغل بالمقاولات، إلا انه كانت له ميول فنية وخصوصاً المواويل والموشحات، لذلك مالت منذ صغرها إلى الغناء، وهو الامر الذي كان يرفضه والدها بشدة، وتروي”نور الهدي” انها كانت تسترقي السمع إلي صوت عبد الوهاب من خلال الفونوغراف الذي كان يملكه جار يسكن في الدور الأول من المنزل الذي تقطن به، فكان عليها أن تتسلل حتي تصل الي الجدار الذي يفصل ما بين الصوت وتجلس لتستمع الي صوت عبد الوهاب يغني أغنية “يا جارة الوادي”، وكثيرا ما كانت تلقي تعنيفا من والدتها لتركها الدراسة وهي في السن السابعة لسماع تلك الاغنيات التي كانت ترددها بين الحين والآخر، لكن زوج زوج عمتها كان يشجعها علي الغناء، واستطاع أن يقنع والدتها بأن تسمح لها بالتدريب على أصول الغناء على يدي أحد المتخصصين من دون علم والدهان فكان يصحبها إلي الملحن خالد أبو النصر ليتولى تدريبها وغنت اولي قصيدة لها بعنوان «ليلى»، لم تكن تدرك “نور الهدي” حلاوة صوتها إلا من خلال الحفلات المدرسية والتصفيق الذي تقابل به عند الغناء، لم يقف الامر عند هذا الحد، بل قام زوج عمتها بخطوة جريئة وعقد اتفاق مع متعهد حفلات لاقامة حفلة غنائية في سينما كريستال في بيروت، وبالفعل تذهب إلي الحفلة وتبلي بلاء حسنا، وبعد الانتهاء من الحفلة كان ينتظرها عقاب شديد من الوالد الذي راح ينهال عليها بالصفعات، وشدد عليها ألا تغني مرة أخري, لكن الفن المسكون داخلها لم يمنعها من الغناء، مما جعل الأب يضطر في النهاية الى الرضوخ لتدخلات الأقارب والأصدقاء، فسمح لابنته بالغناء مشترطاً أن يرافقها مع والدتها في جولاتها الغنائية ليبدأ مشوارها الفني متأثرة باستاذها عبد الوهاب الذي كان صوته أكثر ما كان يحرك أحاسيسها الفنية المبكرة، حتي انها كانت تردد بأن “دمها وهابي”، كما أنها كانت تميل إلي صوت فتحية أحمد، وتطورت العلاقة بينها وبين والدها وأصبح يؤلف قصص بعض أفلامها السينمائية. احترفت الغناء ببيروت واستطاعت أن تثبت اقدامها وحصدت شهرة كبيرة في ذاك الوقت مهدت لها الطريق للانتقال للغناء علي مسارح سوريا، ثم بدأت تصل شهرتها إلي حلب وهناك التقت بيوسف وهبي بايعاز من فتحية أحمد الذي سمعها تغني فانجذب لصوتها ورأي بفطنته أنها تصلح للعمل للسينما ولا سيما انها تتمتع بمظهر حسن وخفة دم وقبول عاليين، فقام بتوقيع عقد معها لمدة خمس سنوات بأجر 150 جنيها عن الفيلم واختار لها اسم “نور الهدي” و التي عرفت به طوال حياتها. جاْءت إلي القاهرة لتنفذ بنود الاتفاق بتمثيل أول أفلامها «جوهرة» (1943) مع يوسف وهبي والذي نجح نجاحا كبيرا، مما جعله يسند لها بطولة الفيلم الثاني «برلنتي» (1944)، ذاع صيت “نور الهدي” ولقت حفاوة من الجمهور بهذه الوافدة الجديدة المتوهجة صاحبة الصوت الجميل والاداء المميز، دفع هذا النجاح المخرجين وراءها، فيسند لها نيازي مصطفي عام 1945 فيلم «مدموزيل بوسة»، ثم يختارها أحمد جلال لتقاسم محسن سرحان بطولة فيلم «أميرة الأحلام» وفي هذا الفيلم قامت بتجسيد شخصيتين، الاولي لاميرة والثانية لبائعة فاكهة، وتميزت في اداء الدورين، ثم شاركت محمد فوزي فيلم «مجد ودموع» ( 1946) للمخرج أحمد بدرخان. وفي هذا العام 1946 كانت تحمل لها الاقدار بشري عظيمة بالوقوف أمام معشوقها الاول محمد عبد الوهاب والذي وقع اختياره عليها هو والمخرج محمد كريم لتشاركه بطولة «لست ملاكاً» والذي قامت فيه بأداء دور فتاة كفيفة. ثم توالت الاعمال السينمائية بعد ذلك، ومع كل عمل جديد كانت تترسخ وتثبت اقدامها علي الساحة الفنية وأصبح لها شأن كبير، لتقدم ثلاثة افلام عام 1947وهم «غدر وعذاب» (إخراج حسين صدقي)، «المنتقم» (إخراج صلاح أبو سيف) و«قبّلني يا أبي» (إخراج أحمد بدرخان). ويأتي عام 1948 لتقدم ثلاثة أفلام أيضا «حياة حائرة» و«المستقبل المجهول» (إخراج أحمد سالم) و«نرجس» (إخراج عبد الفتاح حسن). وفي السنوات اللاحقة، لعبت نور الهدى أدوارها الرئيسية في أعمال سينمائية عدة، بينها «مبروك عليك»، «هدى»، «أفراح»، «غرام راقصة»، «الشرف غالي»، «شباك حبيبي»، «ما تقولش لحدّ» وغيرها، إضافة إلى «مصري في لبنان» (1952) ثم جاء العمل الاخير لها في مصر «حكم قرقوش» (1953) الذي أخرجه فطين عبد الوهاب.، لتترك القاهرة وتعود إلي بيروت لتشهد تجربتها السينمائية الوحيدة والاخيرة من خلال فيلم «لمن تشرق الشمس» (1958) للمخرج السوري يوسف فهدة. عاشت نور الهدي لفنها فقط ونسيت في خضام الايام أن تتزوج وتنجب وهو ما ندمت عليه كثيرا. لحن لنور الهدى كبار ملحني ذلك الزمن، من محمد القصبجي إلى زكريا أحمد إلى رياض السنباطي، إلى فريد الأطرش إلى محمد فوزي إلى عبد العزيز محمود، إلى محمود الشريف وأحمد صدقي، لكنها انتظرت بشغف لقاءها بمحمد عبدالوهاب والتي تقول في احدي تصريحاتها أن لقائها بها كان يكفيها. فما بالنا وقد شاركت بطولة أحد افلامه، وقام بتلحين ثلاث أغنيات معروفة: «ما تقولي مالك محتار، أضحك لمين، شبكوني ونسيوني قوام»، إلى جانب لحني ديالوج مشترك بينهما، وكان ذلك حسب روايتها أقصى طموحاتها الفنية والشخصية، كما أنها لم تكن تخفي إعجابها الشخصي به. أما لماذا عادت مرة أخري إلي بيروت لتمكث بها حتي رحيلها تاركة كل هذا التوهج والشهرة والاضواء والنجاح الذي لم تقترب منه مطربة من قبل، لا شك أن هناك مطربات كثيرات حققن النجاح في اعمالهن، لكن الفرق الوحيد بينهن وبين “نور الهدي” أنها منحني النجاح كان يتدني عندهن جميعا ودون الاستثناء، فليلي مراد بكل ألقها ونجوميتها لم تحقق أفلامها الأخيرة “الحياة حلوة” أمام يحيي شاهين، و”الحبيب المجهول” أمام حسين صدقي النجاح التي كانت تحققه افلامها السابقة، حتي رجاء عبده وصباح. كان لهذا النجاح الكبير اعداء هكذا هي الحياة لا يحمل الفرح بها بهجة خالصة دائمة، حتي الحزن مقرون أيضا بوقت محدد ، وهناك دائما اشياء لا نستطيع تفسيرها، او ايجاد مبررات لها، لاشك أن الغيرة من قبل البعض ممن رأين في نجاحها انتقاص من شأنهن، رغم أن الساحة كانت متاحة للجميع، وكلهن دون استثناء كن لهن أعمالهن الناجحة، ربما استكثرن هذا التوهج لنور الهدي ولا سيما أنه لم يقف وراءها أحد ولم يدعمها أو يساندها سوي فنها، ولو كانت تزوجت ما استطعن تلك الحاقدات من التربص لها، والحكاية تبدأ عندما واجهت نور الهدي صعوبات في تجديد إقامتها لدى إدارة الشئون العامة، وكان عليها التعهد خطياً أمام تلك الإدارة بعدم إقامة أية حفلة، خاصة كانت أم عامة، وأن يقتصر نشاطها على العمل السينمائي بمعدّل فيلمين في السنة على الأكثر، وهذا القرار صدر عندما كانت أم كلثوم نقيبة للموسيقيين!! وهو الأمر الذي أزعجها شديدا ووجهت رسالة مفتوحة إلي الرئيس جمال عبد الناصر عبر مجلة الشبكة عام 1956 وقد يلحظ النابه أن لهجتها الرسالة كانت شديدة وصارمة وربما اغضبت المسئولين في ذاك الوقت فلم ينتبهوا لشكواها، حيث قالت :«إنّ الإجراءات التي فرضتها قوانين الرقابة المصرية الصارمة علينا، نحن أهل الفن في سورياولبنان، باتت تتنافى وروح الثورة التي كان من أسس قيامها تقوية العلاقات الأخوية الطبيعية بين مصر وبين كل قطر عربي آخر. لماذا يا سيدي الرئيس يفرض عليّ أن أتوجه بكتاب إلى وزارة الداخلية في القاهرة لتوافق على منحي سمة الدخول إلى مصر، ولا يفرض لبنان بالمقابل سوى طلب بسيط تتقدم به الفنانة المصرية إلى سفارتها في القاهرة لا إلى وزارة الداخلية في لبنان». عادت نور الهدي إلي بيروت وهي في أوج شهرتها وتألقها، ولكن هيهات ما بين اضواء القاهرةوبيروت، فرغم انها قوبلت بالتقدير الشديد وقام الموسيقار توفيق الباشا بتلحين برامج تلفزيونية وإذاعية لها، إلى جانب ملحنها الأول خالد أبوالنصر، وشاركت بعدة حفلات في المناسبات الرسمية وأمام الجمهور، وتسجيل الأغاني في الإذاعة اللبنانية، ولدى شركات الأسطوانات، اضافة إلى تسجيلات مختلفة للإذاعات العربية: خصوصاً الابتهالات الدينية والقصائد التي أجادتها وغنتها سابقاً في حفلاتها الأولى في لبنانوسوريا في الإذاعة اللبنانية عند إنشائها (سنة 1938). أما نشاطها السينمائي في لبنان فاقتصر على فيلم واحد «لمن تشرق الشمس سنة 1958». كما نفذت ثلاثة مسلسلات إذاعية لإذاعة B.B.C. (ملكة المسارح، طروب، وحبابة) في أواسط الستينات. كما قدمت ثلاثة مسلسلات تلفزيونية أيضاً لتلفزيون لبنان (ليالي الأندلس، الغريبان، ونوارة) في مطلع السبعينات لكن ذلك لم يعوضها عن مجدها بمصر والشهرة التي نالتها والنجاح الذي حققته، كانت لبنان الخطوة الاولي لصباح ووديع الصافي ونجاح سلام والكثيرون من الفنانين اللبنانيين، ثم أتت مصر مسك الختام، وليس العكس، كما أن لبنان في ذاك الوقت كانت تحتضن نجمتها الاولي فيروز، ولم يكن في استطاعة أحد أن يشاركها مكانتها خصوصا وأن الاخوين رحباني وظفا كل امكاناتهما لتصعيدها وحدها ودون غيرها إلي القمة. لم يبقي اذن سوي الذكريات الجميلة لتؤنس وحدتها وحنينها إلي مصر، ولم يمنعها عن المجئ إلي القاهرة إلا قصر ذات اليد، ففي حوار اذاعي قالت” لو كنت املك اموال لذهبت إلي مصر كل عام، ولكني افقر فنانة في الدنيا، وليس باستطاعتي تحمل مصروفات الذهاب والاقامة في فندق، ولكنها اضافت أنها عندما كانت تحن لهذا البلد الذي احتضنها كانت تتجاذب اطراف الحديث مع المصريين المقيمين بلبنان وكان ذلك يشعرها بالسعادة والحزن في نفس الوقت، ورغم كل ما حاق بهذه العملاقة الكبيرة يظل هناك تساؤل لم نستطع الاجابة عليه، وهو أن ما حدث لم يكن يستدعي الرحيل النهائي، كان يمكنها أن تعمل بالسينما حسب القوانين المصرية (فيلمين فقط في العام)، وكان يمكنها أن تأخذها تصريح عند اقامة حفلات خارجية، اذن لماذا عادت لوطنها بلا رجعة. جاءت الايام الأخيرة في حياة نور الهدي صعبة وشاقة، لكنها لم تحن رأسها يوما وعندما أرسل لها المسئولين في القصر الجمهوري لاحياء حفلة تكريمية للرئيس بشارة الخوري قبل موعدها بيوم واحد اعتذرت بكبرياء قائلة : «الفنان ليس علبة كبريت نحصل عليها ساعة نشاء» لقد استمدت صلابتها وشدتها في أحلك ايام حياتها من فنها الذي لازال يصدح في الارجاء لكنه لن ولم يخفت حتي ولو بالنسيان.