مناضلون يساريون شحاتة هارون سلفيرة «1» «أنا مصري ويهودي وماركسي، كنت ولم أزل وسأظل متمسكا بعناصر وجودي هذه، كاملة غير منقوصة، ولن أتنازل عن أي منها ولو وقف العالم كله ضدي». شحاتة هارون هذا الرجل الذي ذاب حبا في تراب مصر والمصريين وظل يذوب في هذا الحب حتي آخر نسمات حياته وعاش يؤكد هذا الحب الثلاثي الأبعاد رغم غباوات وحماقات وإنكار كثيرين من الحمقي الذي تزخر بهم حياتنا. ذات يوم جلست إليه لأسجل حوارا معه، وما إن لمست الجرح الغائر في القلب حتي وقف غاضبا أنا مصري وهذا عشقي ويهودي وهذا حقي وماركسي وهذه عقيدتي التي أعرب بها عن عشقي لمصر وعن حقي في التمسك بديانتي ولن أتنازل أبدأ عن عشقي ولا عن حقي ولا عن عقيدتي (حوار في 25/4/1970). الأسرة عاشت في مصر أجيالا طويلة وظلت علي الدوام متشددة في تدينها، جده زكي كرايم كان متشددا وصمم علي أن يعيش شحاتة كيهودي حقيقي فأحضر له حاخاما ليقوم بتدريس الديانة اليهودية والتوراة في المنزل، ولكن الأب خشي علي الابن من عدم إتقان اللغة العربية فيعيش في مصر كخواجة فأحضر له شيخا معمما ليدرس له قواعد اللغة العربية، وكان في ذات الوقت طالبا في مدرسة الفرير بباب اللوق حيث الرهبان الكاثوليك المتزمتون، وعلي مدي سنوات ظل يحفظ التوراة ويتلقي دروس العربية ويتعلم علي يدي الكاثوليك ويقول لي ضاحكا: عارف العلم الجميل القديم والهلال والثلاث نجوم أنا كنت دائما أعتبر نفسي رمزا للنجوم الثلاث التي كانت ترمز للديانات السماوية الثلاثة، وإلي كلية الحقوق ذهب حاملا معه عشقه للوطن والتزامه الديني وهناك وجد نفسه في دوامة ملتهبة من العمل السياسي عبدالرحمن الشرقاوي ألح عليه كي ينضم إلي مصر الفتاة لكن تطرفهم الديني أبعده عنهم وبقي كما كان لفترة من الوقت يميل نحو الوفد بسبب تسامحه الديني، وأخذ بهذه الصفة يشارك في المظاهرات والمؤتمرات ويتحمس في العداء للاحتلال وأحزاب الأقلية والقصر الملكي. وفي الحوار سألته: متي أصبحت شيوعيا؟ فقال: «أول مرة سمعت فيها كلمة شيوعي كانت عندما أحلت إلي مجلس تأديب بكلية الحقوق بسبب المشاركة في تنظيم مظاهرة وكان معي محمد عودة وسمعت المحقق يسأل عودة: إنت وفدي؟ فأجاب بحماس: لأن أنا شيوعي». لكن الكلمة لم تستلفت انتباهه الذي لم يزل مغلفا بالحيرة، كان يريد أن يفعل شيئا جادا لمصر: ذهب إلي نادي المكابي «اليهودي» لكن المناخ المنغلق علي اليهود وحدهم لم يعجبه انضم إلي جمعية تسمي «عصبة مكافحة العداء للسامية» لكن هدوء الأعضاء وبرودة الكلمات لم تعجبه. حضر اجتماعا للجمعية الصهيونية «وكانت علنية» لكنه شعر بالقرف، التقي بالمصادفة ضابطا إنجليزيا اسمه «زاميث هاينز» واستمع إليه طويلا وكثيرا وهو يتحدث عن الاشتراكية والشيوعية وحقوق الفقراء، لكنه يظل متمسكا بسلبيته، وظل كذلك حتي تخرج في كلية الحقوق وعمل محاميا وأخيرا وجه خيط النجاة نحو اقتناع حقيقي بأن يفعل شيئا للوطن، قابله موظف يعمل مع أبيه «كان الأب بائعا في محل شيكوريل» هو دافيد ناحوم وكان رئيسا لنقابة عمال المحال التجارية، فتح أمامه طاقة ضوء وانبهر الفتي المحامي بالحديث عن الماركسية وعن الدفاع عن الفقراء وتحدي ظلم الرأسماليين، وقدمه ناحوم إلي هنري كورييل وضمه كورييل إلي منظمة الحركة المصرية للتحرر الوطني «ح. م» وفي هذه الحركة كان ثمة قسم للأجانب لأن بعضهم لم يكن يتكلم العربية بقدر يكفي للعمل المشترك، شحاتة رفض قسم الأجانب وعمل مع المصريين، وقبض عليه ذات ليلة في قهوة «بج بن» بشارع سليمان باشا بتهمة عقد اجتماع شيوعي، واحتجز في نقطة كوتسكا «شارع معروف» ضحك وكيل النيابة عندما شهد ضابط البوليس السياسي بأنه قبض عليهم «كانوا ثلاثة أحدهم كورييل» عندها شاهدهم يتهامسون خوفا من أن يسمعهم أحد وأفرج عنهم، لكن القبض يتوالي مرة ومرات حتي فزع الأب وسأله غاضبا «انت عايز تبقي وزير في بلاد المسلمين؟» لكن شحاتة لم يكن يريد سوي تحرير المصريين من الظلم وهذا يكفيه ويزيد، وفي يوليو 1946 قبض عليه في قضية الشيوعية الكبري، وخرج بعد أشهر ثم قبض عليه مرة أخري في عام 1948 عندما أعلنت الأحكام العرفية بسبب حرب فلسطين، وظل في المعتقل حتي قدوم حكومة الوفد عام 1950 وإغلاق المعتقلات. لكن اشتعال حرب فلسطين كان بداية معاناة حقيقية لكل اليهود المصريين، الكثيرون منهم هاجروا لكنه بقي مصمما علي حقه المثلث الأضلاع «مصري - يهودي - شيوعي» زوجته الجميلة والوفية مارسيل الفرنسية الجنسية كانت تسانده وتحمي ظهره، السفارة الفرنسية عرضت عليها أن تقوم بتسفيرها هي والأولاد إلي فرنسا ثم تعطي الفرصة لشحاتة كي يلحق بهم، لكنها رفضت فشحاتة لن يترك مصر، وهي أيضا معه. وكانت معاناة حقيقية أن تنظر إليك العيون في تساؤل: لماذا بقي هذا الرجل ولم يهاجر مثل آلاف غيره؟ وشحاتة لا يغضب فهم لا يعرفون قيمة العشق للوطن، وذات يوم عادت الابنة ماجدة إلي البيت باكية كانت في السنة الأولي إعدادي وفوجئت بمدرسة التربية الاجتماعية تقول «اليهود في المنطقة معزولين زي الكلب الجربان»، ذهب بها شحاتة إلي المدرسة وجلس ليشرح للمدرسات وللناظرة الفارق بين «اليهودية» «الديانة» - وبين «إسرائيل» «الدولة المعتدية» وبين «الصهيونية» «السياسة العنصرية» وأعلن أن البنت مش هتدخل الفصل إلا إذا اعتذرت لها المدرسة أمام التلاميذ، واعتذرت لها المدرسة، وكان شحاتة يعلم أولاده كل يوم احترموا أنفسكم يحترمكم الناس، أحبوا مصر يحبكم الناس. وفي عام 1956 وعلي إثر العدوان الثلاثي يوضع مكتبه تحت الحراسة ويعتقل هو، لكنه يعتقل هذه المرة كيهودي وليس كشيوعي فرفاقه كانوا هناك في بورسعيد يحاربون العدوان، الجرح هذه المرة كان غائرا فهو علي استعداد أن يقبض عليه ألف مرة كشيوعي ولكن القبض عليه كيهودي خلال عدوان إسرائيلي يعني الشك في وطنيته وهذا ما لا يقبله، فوجه من المعتقل رسالة صاخبة وغاضبة إلي عبدالناصر، وأفرج عنه، وفي 1967 وعندما تندلع الحرب مرة أخري يطلب إلي نقابة المحامين أن ينضم إلي كتيبة المحامين التي كانت تتدرب للذهاب للجبهة، لكنه يقبض عليه، ويكون القبض عليه هذه المرة شديد القسوة ويعامل معاملة غير مسبوقة وعرف السبب، فقد استبق شحاتة أحداث العدوان بعدة أشهر وردا علي خطاب عبدالناصر في عيد الوحدة في 28 فبراير 1967 وجه شحاتة إليه رسالة مطولة وغاضبة عدد فيها مظاهر التمييز ضد اليهود المصريين دونما نظر لمصريتهم ولا لولائهم لمصر وحرصهم علي البقاء رفضا للسفر لإسرائيل، وكانت لهجة الرسالة واضحة وشجاعة ولهذا اعتقل يوم 5 يونيو وعومل معاملة شديدة القسوة. فماذا قال شحاتة في رسالته لعبدالناصر؟ وإلي العدد القادم.