مناضلون يساريون شحاتة هارون سلفيرة (2) «أنا يهودي ضد الصهيونية، تماما كما تكون مسلما وضد الإخوان المسلمين والصهاينة يعتبرونني خائنا، وأنا مصمم علي البقاء في مصر حتي ولو قطعوا رقبتي علي أرضها». شحاتة هارون سألنا ماذا أغضب عبدالناصر في رسالة شحاتة هارون التي أرسلها له في فبراير 1967؟ والإجابة تكمن في نصوصها فالرسالة تبدأ «في إطار الصيغة الجديدة المطروحة اليوم علي منطقتنا في فهم المعركة الدائرة بين الاستعمار والرجعية والعنصرية الإسرائيلية من جهة، وبين القوي الثورية من الجهة المقابلة فإنه ما من شك في أن للتقدميين من اليهود دورهم الإيجابي ومكانهم في صفوف القوي الثورية، وهؤلاء لابد من ضمهم صراحة إلي باقي القوي الثورية لمساعدتهم علي تعبئة الجماهير اليهودية في العالم لتقف معنا في معركة التحرير والديمقراطية والاشتراكية»، وتمضي الرسالة «فمنذ عام 1948 والحكومات العربية تسلك نحو مواطنيها من اليهود سلوكا دفعهم إلي الهجرة بما أدي إلي مد دولة إسرائيل بحوالي 60% من عتادها البشري» ويمضي شحاتة في رسالته «ويبقي الحال إلي الآن كما هو برغم التحولات الثورية الجذرية في بعض الدول العربية مما أسبغ علي حكوماتها التقدمية شبهة أو ظلالا من العنصرية تتناقض تناقضا صارخا مع ما تعتنقه من مبادئ اشتراكية علمية، والحقيقة أنه إذا لم يكن ثمة مبرر لهذا السلوك في بداية الأمر فإن استمراره مع اشتراكيتنا اليوم أصبح تبريره صعبا بل مستحيلا»، ثم يسأل «كيف يمكنني وأنا المولع بثورتنا والمقدر عن وعي صادق وعميق للدور التاريخي والخلاق الذي يلعبه عبدالناصر أن أبرر لغيري من اليهود هنا وفي العالم أسلوب التعامل مع اليهود المصريين»، «فأنا وغيري محرومون من أداء الخدمة العسكرية، ومحرومون من حق العمل في المؤسسات العامة، ومحرومون من مغادرة البلاد لأي فترة إلا بعد التنازل عن الجنسية المصرية أو عن حق الإقامة في مصر»، وتمضي الرسالة لتسرد عناصر التمييز ضد اليهود المصريين ثم تسأل «كيف يمكن التوفيق بين ما يعلن وما يقال وبين ما يجري فعلا وعملا، مثل تلك التدابير الخفية وغير الخفية التي تحز في النفس وتغضب وتؤلم وتذل» وكان طبيعيا أن يغضب عبدالناصر من هذه الجرأة، وكانت المعاملة الشديدة القسوة له شخصيا عقب اعتقاله في 5 يونيو 1967 لكنه يظل متمسكا بحقه ورؤيته، وفي المعتقل ظل يؤكد لمن حققوا معه في أسباب توجيهه لهذه الرسالة إلي الرئيس وقال لهم «إن وحدة القوي الثورية لا تحتمل أي استثناء أو أي إقصاء لجزء من تلك القوي الثورية يكون مرده إلي اختلاف في الأصل أو الدين»، ويظل شحاتة في معركته المتصلة فيتقدم بطلب لنقابة المحامين لقيده في جدول المحامين أمام محكمة النقض، وترفض النقابة لأنه «يهودي» ويرسل شحاتة برقية لعبدالناصر ويقول «رفضت النقابة طلبي لأنني يهودي وليس هذا جرما مانعا» وترضخ النقابة بعد معركة طويلة. وبعد حرب أكتوبر يعلن شحاتة هارون علي صفحات مجلة الطليعة ابتهاجه قائلا «لقد قضي العبور نهائيا، وبما لا رجعة فيه علي أسطورة أن إسرائيل دولة لا تقهر» ويفسر شحاتة في مقاله سر مساندة أمريكا لإسرائيل بأن أمريكا تتخذ من إسرائيل أداة ردع لحماية المصالح الأمريكية الاقتصادية والبترولية في المنطقة، فإذا صيغت هذه المصالح لم يتبق لأمريكا سبب لمساندة إسرائيل، ويمضي المقال مطالبا بوقفة عربية معادية لأمريكا وإسرائيل معا (الطليعة - أكتوبر 1974). وفي يناير 1975 وعقب مظاهرات صاخبة طالب فيها العمال بالخبز قبض عليه وتزف الصحف الحكومية النبأ في بهجة متهمة إياه بأنه كان بين المتظاهرين محرضا لهم.. بينما قبض عليه في بيته وبعد أن يفرج عنه يجري معه صلاح حافظ حوارا (روزاليوسف 2 مارس 1975) يقول فيه شحاتة كلمات موحية «نعم أنا يهودي، نعم أنا يساري، لكن الصفة الأهم هي أنني مصري وفي حدود معلوماتي أنه لا يشترط لكي أكون مصريا أن أغير ديانتي ولا أن أغير معتقداتي السياسية، ولا توجد جهة في الدولة لا تعرف جهودي في الحرب ضد الصهيونية سواء هنا أو في خارج البلاد». وعندما تكون كامب ديفيد يعلو صوت شحاتة هارون رفضا لها مؤكدا «اتفاقيات كامب ديفيد ليست في رأيي سوي سلام أمريكي بشروط المؤسسة الصهيونية الحاكمة في إسرائيل وبالتالي فإنها في اعتقادي ضد مصالح الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني» (القبس الكويتية - أكتوبر 1980). نحن إزاء رجل أسطوري يذكرنا بالبطل الإغريقي الأسطوري سيزيف لكنه لا يحمل صخرة واحدة وإنما ثلاث.. عشقه لمصر والتزامه الديني وتمسكه بمعتقده، ورغم صعوبة المرتقي واصل معركته بلا كلل، وفي 10 يناير 1976 وجه برقية إلي الرئيس السادات يطالب فيها «بإلغاء كل الإجراءات والقرارات - السري منها والعلني - التي تفرق في المعاملة بين اليهود وغيرهم من المواطنين، وأن يضع حدا للمقالات والأحاديث الإذاعية والتليفزيونية التي تحقر الدين اليهودي قائلا «إن يهود مصر جزء منها وكرامتهم من كرامتها، وآمالهم من آمالها مهما ادعي السفهاء والمغرضون» ويغضب السادات، لكن الرجل اعتاد علي غضب الرؤساء منه. وعندما تأسس منبر اليسار في أبريل 1976 أتي شحاتة هارون في اليوم الأول ليقدم طلب الانضمام.. وليواصل رحلته معنا حتي يصبح عضوا في اللجنة المركزية للحزب. وفي 1979 وإثر التوقيع علي اتفاقية السلام ومعاهدة الصلح مع إسرائيل حضر إيجال يادين نائب رئيس وزراء إسرائيل وذهب للصلاة في المعبد اليهودي بشارع عدلي، وذهب شحاتة وبعد تفتيش دقيق وخشن دخلت المعبد وتقدمت مباشرة إلي إيجال يادين وقلت له بصوت مرتفع «إني كمصري أري أن هذه المعاهدة مهينة لكرامة الشعب المصري» والتف حولي حراس مصريون وإسرائيليون ومنعوني من الصلاة واقتادوني خارج المعبد، ويدفع شحاتة الثمن فبعد فترة وجيزة يقبض عليه مجددا. ويبقي نضال شحاتة هارون متواصلا ليذكرني ببيت الشعر القائل: أري العنقاء تكبر أن تصادا فعاند ما استطعت له عنادا يعاند الصهيونية والعنصرية ويتمسك بمصريته وعشقه لوطنه وشعبه.. يتمسك بذلك كله حيا وميتا، وعندما يرحل يكون قد أوصي بألا يصلي عليه حاخام قادم من إسرائيل «وهو ما يحدث مع كل من يتوفي من اليهود المتبقين في مصر» وينتظر شحاتة حتي يحضر حاخام من فرنسا.. وبذلك يرقد مستريحا، بعد أن سجل وفي آخر نفس من أنفاسه عداءه لإسرائيل وللصهيونية.