ينتهي العام الدولي للغة العربية مع نهاية هذا العام، فإذا شئنا أن نقيم كيفية احتفال الناطقين بلغة الضاد بعامها لن يفاجئنا الهزال، لأن كل مظاهر التدهور التي لحقت باللغة العربية خلال السنوات الأخيرة، بخاصة منذ بدء سياسة الانفتاح، وهيمنة النزعات الاستهلاكية التجارية التي واكبت انتشار الجوانب السطحية التافهة والشكلية من العولمة الرأسمالية، واختزال الحداثة فى السلوك اليومي للأجيال الجديدة فى شكل استخدام مفردات مشوهة فى الغالب للغة الإنجليزية، بل وصل الأمر ببعضهم إلى كتابة العربية ذاتها بمفردات إنجليزية لتكتمل المهزلة بتفاقم ظاهرة الأخطاء الإملائية والنحوية الفادحة والتي يقع فيها حتى خريجو الجامعات. ولن يكون من العدل أن نلقى باللوم على الأجيال الجديدة وحدها لأنها نتاج منظومة متكاملة من التبعية بعد أن أصبحت البلاد تستورد أكثر من ما تصدر، وتنتج أقل من ما تستهلك وتدهورت الصناعة الوطنية لتتحول البلاد إلى سوق لمنتجات الآخرين، وفى قلب هذه المنظومة المتكاملة يأتي انهيار التعليم نظماً ومناهج ومعلمين. إذ انقسم التعليم أفقياً ورأسيا فهناك تعليم الفقراء وتعليم الأغنياء، وهناك التعليم الوطني والتعليم الأجنبي، وهناك التعليم الديني والتعليم المدني. ونشأت نتيجة لهذا الانقسام الفادح أجيال من الطالبات والطلاب غربية عن بعضها البعض، بينما يتشدق الإعلام والمسئولون بما أسموه الهوية الجامعة، دون إدراك كاف بأن مثل هذه الهوية الجامعة ترتبط ارتباطاً وثيقا باللغة المشتركة، ونجد طلابا وطالبات من خريجي التعليم الأجنبي يتعالون على اللغة العربية باعتبارها متخلفة. ويتعاملون فيما بينهم بالإنجليزية. ولا ننسى هنا أن الإنجليزية تلبي أيضا احتياجاتهم للغة العلم. إذ أن لغة العلم أصبحت غريبة لا لأنها مستوردة ولم تندرج بشكل طبيعي فى قاموسنا، ولكن أيضا لأننا بسبب تراجع الإنتاج والابتكار إلا فيما ندر لا ننتج مفردات جديدة يمكن أن تندرج فى السياق العلمي العالمي وتنتسب لنا. وانحسرت اللغة العلمية فى الدوائر الأكاديمية الضيقة وواجهت صعوبات كبيرة فى عملية التعريب التي طالما كانت مطلبا للعلماء والباحثين وحتى بعض الطلاب، وقيل أن تعريب بعض مصطلحات الطب فى جامعات عربية أدى إلى تدهور دراسة الطب، وهو قول يفتقر إلى الإثبات. ولأننا اعتدنا أن نفكر فى الأمور بل والقضايا الكبرى بمعزل عن بعضها البعض فقد أغفلنا إدراج حماية لغتنا وتطويرها فى منظومة الدفاع عن الأمن القومي والسيادة الوطنية، وحصرنا التفكير فى هاتين القضيتين الأساسيتين. فى الأمن العسكري والسياسي، وغاب عن كل من المفهوم والممارسة حقيقة أن اللغة القومية تشكل ركنا أساسيا من أركان هذا الأمن، وأن العناية بها، وسد الثغرات التي تعمل على إزاحتها من المتن إلى الهامش، وصولا لحد استبدالها باللغة العالمية الشائعة الآن، وهي الإنجليزية فى طبعتها الأمريكية هي مهمة أساسية بدورها تدخل فى صلب حماية الأمن القومي. وفى هذا السياق هناك إجراءات إدارية بسيطة لا أعرف لماذا تمتنع السلطات عن اتخاذها، وكان لدى المرحوم الدكتور «محمد الجويلي» حين تولى وزارة الإدارة المحلية خطة لمنع استخدام الأسماء الأجنبية فى المحلات والمؤسسات عامة وخاصة، وبهذه المناسبة لا يستطيع المرء إلا أن يتساءل لماذا تستخدم المصرية للاتصالات فى حملة الدعاية لعملية التجديد كلمة إنجليزية بينما المفردة المقابلة لها هي نحن أو « إحنا» إذا شاءت أن تكون أقرب إلى الناس، وهي مفردة جميلة وموحية. وتقع المسئولية السياسية الكبرى فى هذا السياق على عاتق صانعي السياسات العامة، وخاصة وزارة التربية والتعليم التي تتخبط منذ سنوات طويلة فى محاولات فاشلة فى الغالب لتطوير التعليم دون أن تقترب جديا من الانقسام الفادح، ودون أن تفرض على مؤسسات التعليم الأجنبي استخدام اللغة العربية كخطوة أولى ثم تقوم بتوحيد المدرسة كخطوة ثانية حفاظاً على ما تدعي أنها تسعى إلى حماية أي الهوية الجامعة التي يدمرها انقسام التعليم. وتظل الأمة العربية محظوظة لأنها أمة القرآن الكريم الذي ظل عبر مئات السنين حافظاً للغة العربية من الإندثار، أو التفتت إلى لغات عدة مثلما حدث مع اللاتينية. ولا ننسى فى هذا السياق أن هناك دوائر مثل مجامع اللغة العربية المنتشرة فى عدد من البلدان، كما ان هناك بعض الأفراد الذين أطلقوا مشروعات أساسية للتعريف باللغة، وإبراز عناصر الجمال فيها والتعريف بها باعتبارها لغة الشعر ذات المليون مفردة. ويبرز هناك الدور المجيد الذي قام به الشاعر والإذاعي الراحل « فاروق شوشة» الذي أطلق برنامجه اليومي القصير والجميل « لغتنا الجميلة « الذي يقدم فيه مختارات من الشعر العربي قديمه وحديثه، وهو يضيئ لنا الخلفية الاجتماعية السياسية والثقافية لهذا الإبداع المميز للعربية عبر العصور، وقامت الإذاعة بإعادة حلقات البرنامج بعد وفاته، ولعل ذلك أن يكون حافزاً لآخرين للمبادرة بإطلاق برامج أخرى حفاظاً على لغتنا الجميلة والتعريف بجمالياتها. كما أن الإذاعيين «أحمد الجبالي» و»براء المطيعي» يقدمان فقرة قصيرة لتصحيح الأخطاء الشائعة «قل ولا تقل». ويبقى أن على الإدارة السياسية للبلاد أن تضع هذه القضية على جدول أعمالها باعتبارها قضية أساسية مثلها مثل مياه النيل.