منذ نحو نصف قرن سارت الثقافة المصرية في اتجاه يعلي من شأن كل ما هو تغريبي, ويحقر كل ما هو قومي وأهلي, ونالت اللغة القومية( العربية) ما نالها من ازدراء وتهميش حتي وصلنا إلي هذه الحالة من التنكرللغتنا,التي هي من أهم مقومات الهوية. هذا الاتجاه التغريبي لم يغن عنا من التقدم شيئا, وصرنا حسب تقارير دولية- في مؤخرة الأمم ثقافيا وعلميا واقتصاديا. د. محمد يونس الحملاوي- أمين عام الجمعية المصرية لتعريب العلوم أحد القلائل الذين لا يزالون يقبضون علي الجمر, ويؤمنون بأنه لا سبيل إلي التقدم إلا بإعادة الاعتزاز للغة العربية وتقديرها حق قدرها, ويدلل علي ذلك علميا وإحصائيا. د. الحملاوي الحاصل علي الدكتوراه في هندسة الحاسبات من جامعة( جنت) ببلجيكا, والمسجل اسمه في' موسوعة الشخصيات العالمية البارزة في العلم والهندسة' أمريكا92-99, يوقن أن تعريب التعليم بوابة لابد من الولوج من خلالها دون تردد- لننتج علما, ونحقق تنمية, محذرا من أن الانسلاخ من عروبتنا, سيؤدي إلي تمزيق الأمة بصورة أكبر, وإلي نص الحوار.. تعريب العلوم.. أتراه حلما جميلا أم وهما في ظل كل هذا الاستخفاف والسخرية من أبناء الأمة بلغتهم القومية؟ الاستخفاف باللغة القومية سببه الشعور بالهزيمة النفسية لدي البعض, ولنتذكر مقولة ابن خلدون في ولع المغلوب بمحاكاة الغالب في ملبسه ولغته وطريقة حياته. ولهذا فإن إذكاء روح القومية لدي الأفراد والمؤسسات علي السواء سوف يعيد الأمور إلي نصابها, لأن الاعتزاز باللغة القومية شرط أساسي لتنمية المجتمع في جميع المجتمعات المتقدمة. ولهذا فبذل الجهد في التوعية بارتباط التنمية بالاعتزاز بلغتنا القومية أمر أساسي, فما من أمة تقدمت علي مدار التاريخ أو متقدمة حاليا- منها دول تعدادها يصل إلي مليونين اثنين- إلا وكانت تنتج العلم وتستوعبه بلغتها القومية. تعريب التعليم بوابة لابد من الولوج من خلالها لننتج علما وتنمية, فهو ليس وهما وليس حلما, ولكنه أحد أساسيات التنمية. هل من تعريف موجز بالجمعية المصرية لتعريب العلوم, وما أبرز إنجازاتها؟ نشأت الجمعية عام1994 م بهدف تعريب التعليم من خلال آليات عمل أهمها الحفاظ علي اللغة العربية بجانب تعريب التعليم العام والجامعي عن طريق إجراء البحوث وعقد المؤتمرات والندوات عن التعريب والارتقاء باللغة العربية كوعاء لجهود الأمة والارتقاء بتعليم اللغات الأجنبية في السن المناسبة كلغات وليس كوسيط تعليمي. ولعل أبرز إنجازات الجمعية مؤتمرها السنوي الذي استمر منذ إنشائها وحتي العام الحالي, إضافة إلي عقد الندوات دوريا وإصدار مجلة رسالة التعريب والقيام بالعديد من البحوث عن مفردات قضية التعريب لتوضيح العلاقة الموجبة بين اللغة القومية والتنمية والهوية. هل توجد جهات تعلقون عليها آمالا كبارا في قضية تعريب العلوم؟ نعلق آمالا علي الإعلام لإبراز ارتباط قضية التنمية باستخدام اللغة القومية كوعاء للمجتمع ولهويته ولمختلف أعماله, حتي تصبح قضية استخدام اللغة العربية في التعليم بمختلف مراحله قضية تنمية شعبية, ليشعر المواطن العادي أن استخدام العربية في التعليم والعمل مطلب تنموي له ولوطنه. كما نعلق آمالا علي أساتذة الجامعة;المفترض أنهم قادة للفكر;ليتفهموا القضية وليدافعوا عنها بعيدا عن المنافع الشخصية وكذلك علي من يتصدرون العمل الشعبي لتفهم القضية والدفاع عنها بصورة علمية. قضية تعريب العلوم, هل نعدها من القضايا الفكرية الثقافية أم من القضايا السياسية؟ التعريب قضية تنموية فكرية سياسية ثقافية لارتباط اللغة القومية بالتنمية في جميع المجتمعات المتقدمة ولارتباط التخلف بعكس ذلك. فهي قضية فكرية لأنها تحتاج إلي التعامل معها بصورة منطقية تدرس مختلف أبعادها وصولا لحلول علمية. وهي قضية سياسية لارتباط السياسة القويمة بتعظيم استخدام كل آليات المجتمع لدفعه للأمام, ومن تلك الآليات اللغة القومية, إضافة إلي شمولية القضية التي تحتاج إلي تخطيط علي مستوي عام وهو مجال عمل السياسة وهي قضية ثقافية لارتباط اللغة القومية بثقافة الأمة وهويتها.بقي أن نؤكد أن قضية التعليم باللغة القومية قضية نفعية بحتة بلا توجه سياسي محدد, فهي بوتقة لمختلف فصائل المجتمع. كيف يمكن أن تكون قضية تعريب العلوم بابا إلي التنمية؟ طبقا لمؤشرات الأممالمتحدة نحن في وضع متدن علميا ولغويا وثقافيا, حيث ننتج30 كتابا جديدا سنويا لكل مليون مواطن, بينما تنتج فنلندا وتعدادها خمسة ملايين نسمة2533 كتابا لكل مليون مواطن, وعلي الجانب العلمي نجد أننا ننتج أقل من نصف براءة اختراع سنويا لكل مليون مواطن, في حين تنتج اليابان1646 براءة لكل مليون مواطن. وبملاحظة أن فنلندا واليابان في صدارة العالم تقنيا وبشريا وأن جميع دول العالم المتقدمة وعددها23 دولة يتراوح عدد سكانها بين مليونين وثلاثمائة وثلاثة عشر مليونا, تتعامل داخليا في التعليم والإعلام والثقافة والعلم والصناعة والزراعة بلغاتها القومية بلا استثناء وحيد سواء في بدايات تقدمها أوحاليا. وحين ندرك أن اللغة وعاء لمختلف أنشطة المجتمع من علم وأدب وفن وهوية, وأنها أساس لتجانس المجتمع وأن جميع الدول المتقدمة تتفاعل مع غيرها من الدول بلغتها وبلغات غيرها سوف نضع لغتنا العربية في سياقها التنموي المعرفي الذي يجمع مختلف أعمال المجتمع. وهنا لابد من التأكيد أن قضية الترجمة ومعرفة اللغات الأجنبية آلية أساسية من آليات التنمية لا يمكن لأية أمة أن تتجاهلها. وعلي النقيض من ذلك نجد أن مختلف الأمم المتخلفة تنتصر لغير لغاتها في حياتها العلمية بل واللغوية! ولعلي أشير إلي ما توصلت إليه دراسة للمركز القومي للدراسات والبحوث التربوية إلي أن التدريس باللغات الأجنبية في الصغر يؤدي إلي نمو لغة أجنبية مشوهة وذات تأثير سلبي علي نمو اللغة العربية وعلي نمو الوظائف والمفاهيم والمعارف العلمية.كماتشير دراسة أخري علي أوراق إجابة كتبت بالإنجليزية لطلبة إحدي كليات الطب المصرية إلي أن عشرة بالمائة فقط من الطلاب استطاعوا التعبير عن أنفسهم بشكل جيد, وأن خمسة وعشرين بالمائة لم يفهموا المعلومات. وتشير دراسة ثالثة إلي تحسن التحصيل العلمي في حالة الدراسة بالعربية عن حالة الدراسة بالإنجليزية بنسبة أربعة وستين بالمائة. لقد أثبتت الدراسات المقارنة بيننا وبين من يدرس بلغته القومية تخلفنا النسبي في عدد البحوث وعدد البراءات وعدد الكتب المنشورة وفي نسبة الصادرات المصنعة وفي دليل التعليم. ولنتذكر أن عدد البحوث في مصر لكل مليون مواطن24 بحثا في حين أنها في السويد ذات التسعة ملايين نسمة1100 بحثا. القضية أننا حين ننحي العربية من التعليم الجامعي وقبل الجامعي نقضي علي التنمية وعلي العربية في ذات الوقت, لأنهما جناحا التنمية فلا سبيل أمامنا للتقدم وللحفاظ علي لغتنا إلا بتعريب التعليم جميعه. كيف يمكن أن يكون إنقاذ اللغة هو إنقاذ للهوية ؟ اللغة هي المحدد الأول للهوية حسب ما يشير إليه قرار الأممالمتحدة عن الهوية ورغم ذلك درج أغلبنا في تعاملاته مع اللغة العربية علي أنها سياقات معرفية تتخاصم مع هويتنا ومع العلم والتنمية والثقافة باعتبارها رطانات ليس لها من العلم محل رغم أن هذا التصور يقتطع من اللغة دورها الأساسي من حيث كونها هوية وأداة حياة وقيم وعلم وثقافة تحافظ علي وحدة المجتمع وقيمه وتاريخه وحضارته وثقافته وعلومه, فهي البوتقة التي تحوي مختلف إنتاج المجتمع من أدب وفن وصناعة وزراعة وقيم وحضارة وبدونها يصبح المجتمع عبارة عن مربعات متناثرة لا يربطها إطار واحد يحدد شخصيتها في مقابل غيرها. كيف تقيمون تجربة سوريا الفريدة في تدريس العلوم باللغة العربية؟ وما مدي نجاحها في ذلك؟ المقارنة السريعة بين مصر وسوريا التي تدرس جميع العلوم بالعربية كفيلة بتوضيح بعض الحقائق; من خلال أرقام دولية, فسوريا( قبل ظروفها الحالية) تأتي قبل مصر في ترتيب الأطباء الأجانب العاملين في أمريكا بالنسبة لعدد سكان دولهم( أي أن تعلمهم بالعربية لم يفقدهم فرص العمل والدراسة بالخارج), كما لا يقل مستوي الأطباء السوريين عن المتوسط العالمي في امتحان المجلس التعليمي للأطباء الأجانب في أمريكا, إضافة إلي ذلك فإن المؤشرات الصحية والتي هي محصلة التعليم الطبي في سوريا أفضل منها في مصر, وتأتي سوريا في دليلي الأممالمتحدة( السبق التقني والتعليم) قبل مصر, والكتب المؤلفة سنويا لكل مليون مواطن في سوريا أكثر من خمسة أضعاف عددها في مصر, كما أن عدد البراءات لكل مليون مواطن في سوريا أكثر من ضعف عددها في مصر. ولكن هناك من يعترض علي قضية تعريب العلوم, ويراها طريقا إلي الفشل؟ لعل أبرز الاعتراضات مقولة إننا يجب أن نفهم العلم ثم نعربه فوقتها سيضطر العالم لمعرفة العربية,وهذا(منطق معوج يراد به باطل), لأننا بهذا نضع العربة أمام الحصان, حيث أننا لا يمكننا فهم العلم إلا بلغتنا أي بعد تعريبه, كما أن تلك المقولة تتناسي أن الهدف من تعريب العلم هو سبر أغواره وفهمه ثم الإبداع فيه وهي سلسلة لا تستقيم للمجتمع إلا بلغته القومية, كما أن هدف التعريب لا يشمل نشر العربية في العالم, فتلك قضية مختلفة تماما عن قضية التعريب ويجب أن ننظر إليها باعتبارها قضية قومية. ان مقارنة وضع التعليم حاليا بما كان عليه إبان الاحتلال الأجنبي لبلادنا يجب النظر إليه بصورة علمية, فالاحتلال لما يأت لينهض بمجتمعنا,وعلينا جميعا ألا ننتصر لما فرضته دول الاحتلال علينا وقت احتلالها لبلادنا من تغيير لغة التعليم للغاتهم,لأننا بهذا ننفذ إرادتهم بأيدينا.