حينما نكتشف أننا ننتج أقل من نصف براءة اختراع سنوياً لكل مليون مواطن، فى حين تنتج سلوفينيا وتعدادها مليونى نسمة 113 براءة لكل مليون مواطن، وأن اليابان تنتج 1486 براءة لكل مليون مواطن. وبملاحظة أن سلوفينيا واليابان فى صدارة العالم تقنياً وبشرياً وأن جميع دول الصدارة المتقدمة وعددها 23 دولة، منها دول عدد سكانها مليونى نسمة، تتعامل داخلياً فى التعليم والإعلام والثقافة والعلم والصناعة والزراعة بلغاتها القومية، بلا استثناء وحيد فى بدايات تقدمها وفى استمرار تقدمها حالياً، فإننا علمياً يجب أن نستشعر أننا فى حالة تنموية مؤسفة. وحتى نستكمل صورة التعليم والتنمية فى دول الصدارة جميعها يجب أن نشير إلى أن التعليم فى تلك الدول باللغة القومية لم يمنعها من التفاعل مع غيرها من الدول بلغاتها وبلغات غيرها، حيث باتت قضية الترجمة ومعرفة اللغات الأجنبية آلية أساسية من آليات التنمية لا يمكن لأية أمة أن تتجاهلها. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن مختلف الأمم المتخلفة تتشايع لغير لغاتها فى حياتها العلمية بل واللغوية! ولم تترك تلك الدول المتقدمة قضية بداية تعلم اللغات الأجنبية دون قواعد، فجميع الدول المتقدمة لا تعرض أبنائها لأية لغة أجنبية قبل سن الحادية عشرة (تعادل المرحلة الإعدادية) أو الرابعة عشرة حسب الدولة، والأهم أنها عند ذلك السن يكون تعليمها بمعدل حصة واحدة أسبوعياً تُزاد إلى حصتين أسبوعياً بعد ثلاث سنوات (فيما يعادل المرحلة الثانوية). وللمقارنة نجد أننا نعرض أبنائنا للغة الأجنبية فى الحضانة فى سن أربع سنوات فى تضاد مع دراسة حكومية تشير إلى أن لتعرض الأطفال للغة أجنبية بجوار العربية فى سن مبكرة تأثير على نمو اللغة العربية وعلى نمو اللغة الأجنبية، حيث تنمو اللغة الأجنبية مشوهة وعلى نمو الوظائف والمفاهيم والمعارف العلمية! ولا يقتصر أمر إهمالنا للغتنا وعاء التنمية على ضعف اهتمامنا بها فى مدارسنا الحكومية، مقارنة باللغات الأجنبية، حيث نعلم أبناءنا اللغة الأجنبية فى الثانوية العامة بمعدل ست حصص مماثلة لعدد حصص اللغة العربية، ضاربين بعرض الحائط كل القواعد التربوية والتى تتناسب فيها درجات المادة مع حجم المادة العلمية المقررة مع عدد ساعات تدريسها، فنجد درجات اللغة العربية فى الثانوية العامة ستين درجة ودرجة اللغة الأجنبية الأولى خمسين درجة، وعدد حصص تدريس كلا المادتين متساوية، بينما حجم المادة العلمية للغة العربية ثلاثة أمثال حجم المادة العلمية للغة الأجنبية. وكانت نتيجة ذلك قصور معدلات نتائج امتحان اللغة العربية فى الثانوية العامة، والتى تكاد تكون عن غير قصد! وحتى نُمعن فى الاستخفاف بلغتنا حجبناها عن معاهد العلم التطبيقى وشاركنا معها لغات أجنبية فى العلوم النظرية فى سابقة فريدة تتعارض مع جميع النظم التربوية المطبقة فى جميع الدول المتقدمة عند بدايات التنمية وخلال مراحل تقدمها متشايعين فى ذلك لما قررته دول الاحتلال علينا وقت احتلالها لبلادنا، وكأننا ننفذ إرادتهم بأيدينا متذرعين بحجج واهية ليس لها دليل علمى، منها عدم وجود مصطلح رغم أنه يمثل حوالى ثلاثة بالمائة من حجم المادة العلمية فى الهندسة والطب مثلاً، متناسين أنه يمكننا إبقاء المصطلح كما هو مرحلياً، ومنها عدم وجود الكتاب العلمى وهو هراء على غير الحقيقة، فسوريا والعراق قبل الاحتلال تدرسان جميع العلوم بالعربية، كما توجد جذر متناثرة تدرس بالعربية فى مصر والسودان وليبيا والسعودية والجزائر وغيرها يمكن البناء على إنتاجها التعليمى، ومنها التخفى خلف اللغة الأجنبية التى لا يجيدها المتلقى لضحالة المستوى أو لضيق الوقت، ومنها المكسب المادى من بيع كتاب تعليمى غير مؤلف غالباً يتم اقتباسه وتحريره من مصادر أجنبية. والنتيجة لواقع التدريس بغير لغتنا العربية فى مدارسنا وجامعاتنا إهدار كامل لوقت الدارسين للعلوم، رغم أن الدراسات العلمية تشير إلى تحسن درجة استيعاب نص علمى عربى عن مثيله بالإنجليزية بنسبة 64%. وفى دراسة على أوراق إجابة طلبة إحدى كليات الطب فى مصر وُجِد أن من فهم المعلومات من الطلبة 25% فقط ثم نُسلم صحتنا وحياتنا لهؤلاء! يأتى هذا فى الوقت الذى ينص فيه قانون تنظيم الجامعات وقانون تنظيم الأزهر وقانون التعليم على وجوب استعمال اللغة العربية دون سواها فى التعليم. وفى الوقت الذى ينص فيه قانون وجوب استعمال اللغة العربية وقانون حماية المستهلك على وجوب استعمال اللغة العربية دون سواها فى الشارع والمكاتبات. وجميعها أمور نص عليها الدستور فى أكثر من مادة تتويجاً لمسيرة استمرت أكثر من قرنين من الزمان ونصت عليها قرارات القمم العربية المتعاقبة. لقد أثبتت الدراسات المقارنة بيننا وبين من يدرس بلغته القومية تخلفنا النسبى فى عدد البحوث وعدد البراءات وعدد الكتب المنشورة وفى نسبة الصادرات المصنعة وفى دليل التعليم. وللتدليل على ذلك نذكر أن عدد البحوث فى مصر لكل مليون مواطن 24 بحثاً، فى حين أنها فى السويد ذات التسعة ملايين نسمة 1100 بحثاً. القضية أننا حين ننحى العربية من التعليم الجامعى وقبل الجامعى، فنحن نقضى على التنمية وعلى العربية فى ذات الوقت، لأنهما جناحا التنمية، فلا سبيل أمامنا للتنمية وللحفاظ على لغتنا إلا بتعريب التعليم جميعه. حين يصل الراغبون للهجرة إلى 19% من جملة شبابنا حسب الإحصاء الرسمى فهذا ناقوس خطر يجب أن نستجيب له بالعلم، وبالعلم وحده، وليس بنبذ تدريس اللغات الأجنبية؛ بل على العكس؛ لابد من الاستمرار فى تدريس اللغات الأجنبية كلغة أجنبية فى معاهد العلم المختلفة، ولكن فى السن المناسبة بالتوازى مع تعريب التعليم فى مختلف مراحله، فقضية التدريس بلغة أجنبية، قضية تختلف أيما اختلاف عن تعليم اللغات الأجنبية كلغة أجنبية. فى ظل تلك المؤشرات المتدنية للتنمية فى مصر وفى المنطقة العربية، لا يمكننا إلا الأخذ بأسباب التقدم ومنها تفعيل دور اللغة فى منظومة الإنتاج، لخلق بوتقة واحدة تصب فيها مختلف مناشط مؤسسات المجتمع وأفراده عن طريق تفعيل القانون وقيام الهيئات الأهلية بدورها الريادى الذى استمرت فى القيام به طيلة قرون وقيام النقابات والجمعيات العلمية بدورها ارتقاءً بالمهن والحرف المختلفة، ومنها الهندسة، مع عدم إغفال آليات التواصل مع الدول المتقدمة من خلال آليات ترجمة بشرية وإلكترونية نشطة. إن تفعيل اللغة القومية فى منظومة المجتمع سوف يؤدى كما حدث ويحدث فى مختلف الحضارات إلى توطين للعلم وللتقنيات وخلق منظومة تنمية متجانسة تؤدى عملها بكفاءة. وفى مسيرتنا للتنمية يجب أن يقوم الأفراد ومن خلفهم مؤسساتهم بدور فى تجلية حقائق قضية التعريب التى لا يعيقها إلا توهم فى غير محله رغم وجود السند القانونى والأخلاقى والتنموى فى الدستور وفى القوانين المختلفة، لضمان تجانس مكونات المجتمع وانضباط مختلف وحدات المجتمع الإنتاجية والثقافية والتزامها بلغة واحدة مُوَحِدة ترفع من كفاءة منظومات المجتمع ذاتها. إن التردد الذى يشوب الموقف السياسى الحالى من عدة فصائل تجاه قضية اللغة القومية، ومنها قضية التعريب لمؤشر خطر لما يمكن أن تئول إليه أمور الوطن، ومنها التنمية، وهو أمر يجب حسمه بكل حزم الآن، فإما أن نركن إلى صحيح العلم، وإما أن نركن إلى تيار المصالح الشخصية التى تتعارض مع منظومة الوطن فى العديد من المواقف، فقضية التنمية بمكوناتها المتشعبة لا تحتمل إلا الحسم والحزم، حفاظاً على وحدة المجتمع ودفعاً له إلى الأمام. أرسل سليمان بن على، والى البصرة، منذ حوالى ثلاثة عشر قرناً، للخليل بن أحمد الفراهيدى، منشئ علم العروض وصاحب أول معجم للعربية، ليأتيه يؤدب ولده، فكان رده: أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّى عَنهُ فى سَعَةٍ :: وَفى غِنىً غَيرَ أَنّى لَستُ ذا مالِ وَالفَقرُ فى النَفسِ لا فى المالِ نَعرِفُهُ :: وَمِثلُ ذاكَ الغِنى فى النَفسِ لا المالِ وَالمالَ يَغشى أُناساً لا خَلاقَ لَهُم :: كَالسيلِ يَغشى أُصولَ الدَندَنِ البالى حين قرأت تلك القصة استوقفنى حال العلم والعلماء (إن صحت التسمية) فى حياتنا! أ.د. محمد يونس الحملاوى عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.