ولأن الصراع ظل بعد ثورة 1919 واثنائها مشتعلا بين لطفى وجماعته وبين سعد زغلول ورجاله وكان اشتعالا لا تقارب فيه ولا تهادن.. فقد يكون ملائما أن نورد رأي لطفى فى سعد قبلها بسنوات وتحديدا فى عام 1912 وهو عام استقالة سعد زغلول من الوزارة. ونقرأ "فى ابريل 1912 استقال سعد من وزارة العدل ووقفت معه، فأنا من الذين يساندون استقالة الوزراء والموظفين إذا لم يستطيعوا أن يؤدوا واجبهم وكانوا فى سراي عابدين وفى قصر الدوبارة (أي قصر الملك، ودار المعتمد البريطاني) متبرمين من سياسة سعد وصراحته وصلابته فى الحق وحرصه على الواجب" (ص82)..ويقول "كان سعد قد دخل الوزارة ليمثل فيها طبقة المتعلمين الاحرار الذين ليس على عقولهم سلطان إلا للحق، ولا على قلوبهم الا حب الوطن ونفعة فحقق فى وزارة المعارف سلطة المصري وملأ كرسي الوزير بحق وتمكن بقدرته وعلو نفسه من وضع المستشار الانجليزي لوزارته عند حد القانون وحقق آمال الأمة فى اكثر ما طلبت فجعل التعليم باللغة العربية وأعاد عهد البعثات وكان من اعماله انشاء مدرسة المعلمين ومدرسة القضاء الشرعي فلما تولي وزارة الحقانية لم يفرط بحقه كوزير حتي كان دفاعه عن اعتقاده مجلبه لتبرم الخديو والانجليز معا (ص83). ويمضي أحمد لطفى السيد فى دهاء متعقل فيقول "ومهما قيل فى هذه الأيام من أن الوكالة البريطانية كانت تساند سعدًا إلا أنه من المحقق ان الرجل كان فى كل اعماله لا يخالف اعتقاده وكان يدافع عن رأيه امام السلطة الشرعية (الخديوي) والسلطة الفعلية (الاحتلال) (ص84).. وليأذن لي القارئ أن استعيد عبارات قالها لطفى السيد فى ذلك الزمان عن موضوع شبيه بما يثار فى ايامنا هذه الآن عن الجنسية المصرية والتمسك بها ورفض أن تكون للانسان جنسيتان. ونقرأ "فى نحو 1911 وفد على مصر رجلان من اعيان الشام ولبنان وهما السيد شكري العسلي من دمشق و"السيد ثابت من اعيان بيروت وكانا يسعيان لضم سوريا إلى مصر وقد لقياني مرارا، ولم اكن متفقا معهما فى هذا الرأي، لا لتعذر هذا الطلب فحسب بل لأني لم أر فيه مصلحة لمصر.. وانتهي الامر بأنهما لم ينجحا فى سعيهما". ثم يمضي لطفى السيد "وكنت منذ زمن طويل أنادي بأن مصر للمصريين، وأن المصري هو الذي لا يعرف له وطنا آخر غير مصر، ما الذي له وطنان يقيم فى مصر ويتخذ له وطنا آخر على سبيل الاحتياط فبعيد عن أن يكون مصريا بمعني الكلمة وقد دعوت السوريين المقيمين فى مصر إلى أن يسجلوا اسمائهم فى المحافظة ليكونوا مصريين. فقد كنت اريد أن يتحمل كل مقيم فى مصر من الواجبات ما يتحمله المصريون لتحقيق القومية المصرية. وقد كان البعض فى الماضي يقولون أن ارض الاسلام وطن لكل المسلمين وهذه رؤية استعمارية. فهي قاعدة تتمشي بغاية السهولة مع العنصر القوي الذي يفتح البلاد باسم الدين" ثم يقول "أن مصريتنا تقضي علينا أن يكون وطننا هو قبلتنا، وأن نكرم انفسنا ونكرم وطننا فلا ننتسب لغيره والانتساب لمصر شرف عظيم متي كرم اهلوها وعزت نفوسهم فاستردوا شرفها وسموا بها إلى مجد آبائهم الأول (ص85) ثم يذكرنا لطفى السيد بمولد أول نقابة للصحافة المصرية فى عام 1912 وانتخب مسيو كانفييه صاحب جورنال الريفورم بالاسكندرية نقيبا والاستاذ فارس نمر وأنا وكيلين ومسيو فيزييه صاحب جورنال "لوكير" سكرتيرا.. ثم اعلنت الحرب.. وأتت عليها" (ص86). ولعل نقابة الصحفيين تجري بحثا أكثر عمقا حول هذه النقابة ودورها. (ص87). وإذا كان المصريون الأحرار الذين ظلوا على الدوام يذكرون بشاعة الجرم فى دنشواي وخيانة المصريين الذين حكموا على شهداء دنشواي وعلي رأسهم فتحي زغلول فإنهم ظلوا يرفضون إصرار أحمد لطفى السيد على الدفاع عن فتحي زغلول قاضي دنشواي ويرفضون زعمه بأنه صديقا عظيما وفيا للحرية ومبادئها وخادميها. وكالعادة فإن التدقيق فى مذكرات احمد لطفى يقتادنا إلى معلومات قد تبدو تفصيلية فى زمانها فتتجاهلها الكتابات أو لا يتعرف عليها المؤرخون لكنها فى كل الاحوال متممه لمعرفتنا بالتاريخ الحقيقي..ونقرأ فى المذكرات تحت عنوان "موقفنا من الحرب سنة 1914" قصة "وتقول انه التقي رشدي باشا وعدلي يكن "واتفقنا على السعي لتعترف انجلترا باستقلالنا ونكفل لها مصالحها إلى حد دخولنا الحرب معها إذا كان ذلك ضروريا. ويقول "التقيت مستشار الداخلية سير جراهام وقلت له أن مركزنا دقيق فنحن تابعون لتركيا وهي ستدخل الحرب مع ألمانيا وانتم تحتلون بلدنا ولست اري طريقا سوي أن نعلن استقلالنا وننصب الخديوي ملكا علينا وتعترفون بذلك. فقال تركيا لن تدخل الحرب وعندنا ضمانات، فلما الححت عليه قال " نحن تعرفكم كما تعرفون انفسكم، فمع ظهور اول طربوش تركي فى القنال ستتركوننا وتجرون خلفه" (ص99) ويحكي لطفى السيد تفاصيل عديدة تداخل فيها ايضا ستورس السكرتير الشرقي بدار المعتمد البريطاني ووعدهم خيرا ثم لم يفعل شيئا ثم يقول "كل ذلك فى اغسطس 1914، وذهبت بعد أيام قلائل إلى عدلي باشا بديوان الخارجية فوجدته قد يئس تماما من تحقيق مطلبنا فخرجت من عنده وأنا مصمم على اعتزال السياسة. ثم قدمت استقالتي من رئاسة "الجريدة" لرئيسها محمود باشا سلميان وسافرت بعدها إلى بلدي "برقين" وكان هذا آخر عهدي بالعمل الصحفي" (ص10) وبعدها ضغط على ابي ان اقبل العمل بالحكومة حتي لا يقبض الانجليز على فقبلت ذلك ارضاء لوالدي. وليأذن لي القارئ أن اتوقف به عند هذه الخطوة الفارقة فى حياة احمد لطفى السيد.. تحمس.. اسس حزبا – اصدر جريدة.. ومع أول منحني يتراجع وكما يقول يكسر قلمه ثم يتوظف حتي لا يقبض عليه". ثم يأتي لطفى السيد إلى احداث ثورة 1919 ويقول "نهضنا نطالب بالاستقلال. طلبنا الاستقلال التام لأن الحرية هي الغذاء الضروري لحياتنا.. وعقولنا وقلوبنا لا ترضي إلا بالحرية".. ثم يقول "أعجب من الذي يظن الحياة شيئا والحرية شيئا آخر ولا يريد أن يقتنع انه لا حياة بلا حرية" (ص104) ثم يتحدث عمن اسماهم الاسماء الخمسة- سعد زغلول- عبد العزيز فهمي- على شعراوي- محمد محمود- وأنا فى التباحث حول كيفية الاستفادة من المبادئ التي اعلنها الرئيس ويلسون والتي تقول أن كل أمة مهما صغرت لها الحق فى اختيار مصيرها. وفى نوفمبر 1918 بدأنا نؤلف الوفد المصري واستقلت من دار الكتب". (ص108). ثم يروي كيف تشكل الوفد المسافر للتفاوض. وكيف تراجع ويلسون وكيف وافق على الحماية البريطانية. ثم الخلاف بين سعد وعدلي على رئاسة الوفد وانتقل الامر إلى خصومه شخصية فإ عتزلت السياسة، ورجعت رئيسا لدار الكتب" (ص109) ونعود لنتحدث عن هذا الرجل الذي يتقد حماسا ثم لا يلبث أن ينطفئ حماسه مع أول عقبة.. وأول صعوبة.. ويبدو أنها سمة من سمات معارك الاعيان.. ونواصل.