كان فتح مكة نصراً عظيماً. وعملاً جليلاً. علمت منه الجزيرة العربية كلها مدي قوة المسلمين وعلو قدرهم وقدرتهم علي قتال أعداء الدعوة وجبابرة الشعوب الذين استذلوا الناس واستعبدوهم من دون الله. فخشيت القبائل القوة الجديدة. وعمل بعضهم علي مهادنة المسلمين والخضوع لإرادتهم دون أن يجرؤ أي من هذه القبائل علي الوقوف ضد الدعوة الإسلامية. ولم تستطع قبيلة أن تقف حاجزاً ضد من أراد الدخول في الإسلام. وكان آخر معقل من معاقل الكفر صنم اللات لقبيلة ثقيف الذي هدمه المغيرة بن شعبة الثقفي بأمر من سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم وسواه المغيرة بالأرض. وقبله أمر الرسول صلي الله عليه وسلم بهدم المسجد الضرار الذي بناه المنافقون قاصدين بذلك تفريق المسلمين وزرع الشقاق بينهم. علمت الروم مدي القوة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية وجيشها فخشي هرقل أن يتجه الجيش الإسلامي للإغارة علي بلاد الروم والشام. وجهز جيشاً كثير العدد والعدة. انضمت إليه قبائل في الشام وفي الأماكن المتاخمة لشبه الجزيرة العربية. وكانت البلقاء ملتقاهم ومكان تجمعهم استعداداً للهجوم الشرس علي المسلمين في أماكنهم محاولة من الروم وحلفائهم للقضاء علي الجيش الإسلامي. علم الرسول بما ينويه العدو. ولأن حرارة الجو قد اشتدت والجدب أصاب الناس. وأثر في اقتصادياتهم. عمد الرسول صلي الله عليه وسلم إلي إخبار الناس برغبته في ملاقاة العدو وقتاله قبل مبادرته بالهجوم علي المدينة وذلك علي خلاف ما كان يفعله الرسول عند خروجه للقتال. فكانت السرية والحفاظ علي مبتغاه هي أسلوبه في الاستعداد للحروب. إلا ما أصاب الناس من جدب وللظروف المناخية فقد أخبر الناس بالرغبة في ملاقاة العدو حتي يدع لكل مسلم الفرصة في إبداء رغبته في اللحاق من الجيش من عدمه. كانت الهمة والمسارعة وحب الانصياع للرسول القائد هي السمة العامة والسائدة لدي المسلمين. وتسابقوا في تجهيز الجيش. وكان الالآف منهم حتي النساء شاركوا في ذلك. فقدم الصحابي العظيم أبوبكر الصديق كل ماله . وقدم الفاروق ثلث ماله. وجهز عثمان ثلث الجيش وأتت النساء بحليها من الأساور والخلاخيل وما يتزين به في عضدهن. يلقونه أمام سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم. فكانت الدعوة إلي الجهاد في هذا الوقت العصيب من شهر رجب في السنة التاسعة من الهجرة امتحاناً لإيمان الصحابة واستفتاء في طاعة الرسول القائد. خرج الرسول في ثلاثين ألف رجل. معه عشرة آلاف فارس. واثنا عشر ألف بعير. سار الرسول بجيش الإيمان إلي تبوك التي تبعد عند المدينة بما يقرب من ستمائة كيلومتر في صحراء ملتهبة وقيظ مشتعل وإمكانيات اقتصادية غير متوفرة لما أصاب البلاد من جدب. علم الروم بخروج المسلمين وبعددهم وعدتهم. ورغم أن الروم لهم من تجارب الحروب وخبرتها ما يبعث في جنودهم وقائدهم الغرور. إلا أن ما علموه من قوة المسلمين ورغبتهم في الجهاد وإصرارهم علي النصر أو الشهادة. بث في قلوب الروم الرعب والخوف. وخشي هرقل هزيمة جيشه أمام جيش المسلمين فآثر السلامة وجنحوا إلي عدم الدخول في معركة يخشون نتيجتها. فتحقق بذلك للمسلمين نصر بلا حرب. وتطهرت الجزيرة العربية كلها من المشركين لتكون تلك الغزوة هي آخر الغزوات التي خرج فيها سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم. هذه الغزوة بقدر ما رفعت شأن المسلمين الحربي. وحققت لهم مجداً عظيماً يكمل ما حققوه في فتح مكة. كما كانت إعلاماً لكل القبائل العربية من فرس وروم بقدرة المسلمين علي تكوين جيش ضخم مهما كانت الظروف. إذ كان الجيش الذي خرج في تلك الغزوة أيضا هي المفرزة التي بينت المؤمنين من المنافقين. والمخلص من المرائي. ومن يطع الله والرسول ممن يحمل في قلبه ضغينة وحقداً كما بينت ضعاف الإيمان الذين آمنوا بالله ورسوله علي حرف ثم تاب إلي الله فتات الله عليه ومن ثم كانت هذه الغزوة هي المصباح النقي الذي ميز الطيب من الخبيث. وأكدت شجاعة الرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته التي بثها الإيمان في نفوسهم. أكدت أن الجيش الإسلامي ذو مكانة عالية. لم يؤثر فيه موقف المنافقين ومحاولتهم إثناء المسلمين علي الخروج مع الرسول. قائلين لهم لا تنفروا في الحرب ولا تلقوا بأيديكم في محاربة جيوش ذات خبرة في الكر والفر وأكثر منكم عدداً وعدة فتهلكون. إلا أن الصحابة طلبوا من رسول الله الخروج معه في تلك الغزوة. ولم يجد الرسول ما يحملهم عليه. وردهم. فرجعوا باكين حزاني. وقد حرموا من الجهاد مع رسول الله وقال تعالي: "ولا علي الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون" "سورة التوبة الآية 92". تناول القرآن الحديث عمن اتبع الرسول من المهاجرين والأنصار. وكذلك الذين قعدوا دون عذر. ومن اعتذر ثم تاب إلي مولاه. فتاب الله عليه. بعد أن هجرهم الناس واجتنبوا حتي زوجاتهم وذلك كله في آيات عديدة من سورة التوبة يتعبد بها المسلمون ويقرؤنها ليل نهار لتكون نبراساً لطاعة الرسول القائد وعظة وعبرة لأولي الألباب.