لم تكن غزوة تبوك المباركة كباقي الغزوات التي قادها النبي "صلي الله عليه وسلم" إنما هي ذات ميزات عدة ومواقف واعظة ، وفي ذكري هذا النصر المبين علي الرومان في التاسع والعشرين من شهر رجب المبارك، نبلغ من تبوك ما يشفي صدورنا ويقينا شر التخاذل عن نصرة دين الله في أرضه ويجنبنا مغبة الاستسلام للاستبداد والمهانة ونحن في أشرف وأقوي بلد تحمل لواء الأمن من الله تعالي . وفيما يلي مواقف مؤثرة ومختارة من تلك الغزوة العظيمة لعلنا نتعظ منها ونتصبر بها علي ما نواجهه اليوم من اضطرابات وفتن تدعونا أن نرجع إلي أسلافنا باحثين عن حلول عملية لما نحن فيه ، فهيا نتمعن بعقولنا وقلوبنا، محولة لإيصال رسالة لشعبنا الكريم أنه لا عسرة تقف أمامنا لنحقق أمالنا ومطالبنا رغم أنف المنافقين وأصحاب المصالح والأعداء المتربصين لنا في كل مقعد.
الرومان يغتاظون من وحدة المسلمين :
بعد أن شعر المسلمون بمدي الراحة والسكينة والأمان بعد فتح مكة واستتباب الدعوة في مسارها الواسع المعلن والذي لم يقف أمامه أية عقبة ، إلا أنهم لم يستطيعوا تثبيت هذا الحال الآمن والمحبب لنفوسهم ، فقد كتب عليهم أن يستعيدوا طعم الكفاح والجهاد في سبيل الحفاظ علي دينهم وحياتهم.
ونظرا لما فيه المسلمون من توسع وحرية وتماسك فيما بينهم ، فقد اغتاظ الرومان من ذلك وبدءوا مناوشاتهم الجدية في سبيل استفزاز المسلمين ومن ثم معاودة الحرب معهم ظانين أنهم بهذا سيتمكنوا من هزيمة المسلمين والاستيلاء علي حضارتهم.
كانت بداية هذا التعرض قتل سفير رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم "الحارث بن عمير الأزدي" على يد شرحبيل بن عمرو الغساني ، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى عظيم بصرى ، فأرسل النبي صَلَّى الله عليه وسلم بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداما عنيفا في مؤتة، وهي إن لم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم.
فرأي الرومان ضرورة القضاء على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليه، فأخذ قيصر يهيئ الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، استعدادا لمعركة دامية فاصلة.
وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يسيطر عليهم كل حين، لا يسمعون صوتا غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان.
نظرة القائد الثاقبة:
كان الرسول صَلَّى الله عليه وسلم ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم، إنه كان يرى أنه لو توانى وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه، وتزحف إلى المدينة؛ لكان لذلك أسوأ الأثر على الدعوة الإسلامية، وعلى سمعة المسلمين العسكرية.
جيش "العسرة" العرمرم:
فقد استساغوا طعم الراحة من الحروب والعيش في ظل آمن ،وكرهوا العودة إلي صفوف المقاتلين ، وكان الناس في عسرة وجدب وقلة من الدواب ،وعلي الرغم من ذلك إلا أنهم أبدوا استعدادهم للمعركة بكل ما أوتوا، لدرجة أن الرسول "صلي الله عليه وسلم " حشد جيشا عرمرما يصل إلي قرابة ثلاثون ألف مقاتل، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط.
وسمي الجيش بجيش "العسرة " نظرا لما لاقاه المسلمين من انعكاس الحالة السيئة الاقتصادية علي ما يتسلحون به في هذا الوقت العصيب من القتال، ووعورة الصحراء تنهش أجلادهم ، وقد تناثرت الإبل واحدة واحدة غير كافية لأعدادهم ، وقد عانوا من قلة المؤن والطعام والشراب، لاسيما أنهم في هذه المرة أكبر مما كانوا عليه في الغزوات السابقة.
وكان في كل هذا بلاء عظيم من الله تعالي للمؤمنين وتنقية لما في نفوسهم وتجديدا لإيمان المؤمنين منهم واغتياظا لقلوب منافقيهم ، إلا أنهم واجهوا بلاء الله تعالي بالصبر والجدية والإيمان العميق الذي جعل كل من تخلف عن الجهاد في عسرة من أمره وفي تخاصم مع نفسه والمؤمنيين.
النبي يصارح المسلمين بما يريبهم:
لما قرر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الخروج لملاقاة الروم أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم، وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا أخفى قصده، ولكنه نظرا إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وبَيَّنَ للناس أمرهم، ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على الجهاد، ونزلت آيات من سورة براءة تثيرهم على الجهاد، وتحثهم على القتال.
ولم يكد المسلمون يسمعون صوت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات.
الصحابة ينقذون الجيش :
ولمواجهة العسرة التي كان عليها الجيش الإسلامي، أخذ النبي صلي الله عليه وسلم يرغب المسلمين في بذل الصدقات وإنفاق كرائم الأموال في سبيل الله.
فمن جانبه ،فتصدق عثمان بن عفان بها ثم تصدق بمائة بعير بكل ما عليها من مؤن، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صَلَّى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم"، ثم تصدق وتصدق، حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود.
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله، وكانت أربعة آلاف درهم، وهو أول من جاء بصدقته، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "وماذا تركت لأهلك؟" فقال: تركت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة كلهم جاءوا بمال، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقا الوسق حمل بعير من التمر، وقد بعثت النساء ما قدرن عليه من أساور وخلاخل وأقراط وخواتم. صحابة يبكون لعدم اشتراكهم في الجهاد: وكعادة المسلمين أنهم أهل للتضحية بالنفس في سبيل الله ورسوله ، فقد طلب سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، ان يشاركوه القتال في تبوك إلا أنهم طلبوا منه أن يوفر لهم دابة تحملهم إذ أنهم لا يملكون ما يحملهم، وهم (سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن حمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزارى).
ولأن عدد المسلمين أكثر من عدتهم، فقد رأي النبي "ص" أنه لن يستطيع أن يوفر لهم ما يحملهم فصارحهم قائلا "لا أجد ما أحملكم عليه" "، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا، ألا يجدوا ما ينفقون،ومن هنا أطلق علي هؤلاء الصحابة "البكاءون"،لأنهم لم يبكوا حزنا لكونهم مقاتلين ، إنما حزنوا لفوات فرصة الجهاد عليهم بسبب قلة الدواب.
ولأنهم يمتلكون نوايا صادقة خالصة لله تعالي، لم ييأسوا أو يستسلموا علي الرغم من حزنهم ، فجاءت الفرصة من عند الله تعالي ليحقق لهم رغبتهم للقتال في سبيله سبحانه، فإذا بابن يامين بن عمير بن كعب النضرى يلقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان، فلما علم ما حدث ،أعطاهما ناقة له فارتحلا عليها، وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأحيلت الدنيا لهم جنة وسعادة لحصول ما تمنوا.
ومن المسلمين من تخلفوا :
وبخلاف نموذج المجاهدون البكاءون ، نجد من المسلمين من انتزع من قلوبهم الإيمان ورضوا برغد العيش تحت ظلال الأزهار والنساء ، تاركين وراء ظهورهم إرضاء سبيل الله تعالي والدفاع عن دين أعزهم من بعد ذلة، فقدموا اعتذارات كاذبة للتخلف عن مشاركة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الغزو، رغم مقدرتهم على ذلك.
واشتهر من بين الذين اشتهروا بذلك الجد بن قيس، فقد قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أحد بني سلمة: "يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟" فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وقال: "لقد أذنت لك".
ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49] أي: إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة أكبر؛ بتخلفه عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه، وإن جهنم لمن ورائه.
وعندما تجمع عسكر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم تجمع عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين وأهل الريب، وعسكروا وحدهم على جبل بالمدينة يقال له: ذباب، ليظن الناس أنهم خارجون للغزو، فلما سار رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم تخلفوا عنه.
نبذة من تحمل الصعاب لبلوغ المرام:
تحرك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيرًا كانوا ، فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزًا كاملًا، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والدواب، فكان ثمانية عشر رجلًا يتناوبون بعيرًا واحدًا للركوب، وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح العير مع قلتها ليشربوا ما في كروشها من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش بجيش العسرة.
نتائج مرضية : تمكن النبي صلي الله عليه وسلم من إحباط الإمبراطورية الرومانية عن طريق نزع القبائل العربية من الناحيتين السياسية والحضارية عنها، كما أنَّه أشعر القبائل الأخرى بمدى قوّة الدولة الإسلامية، وأعلن بعض الأمراء التحاقهم بالإسلام من دون أن تصل إليهم رسائل النبيّ(ص)، كفروة بن عمرو الجذامي، عامل قيصر على عمان من أرض البلقاء، غير آبه بطلب الإمبراطور البيزنطي بتراجعه عن الإسلام، وإيذائه وإلقائه في التهلكة.
وعلى الصعيد الداخلي، فقد عزّز هذا الأمر من ثقة المسلمين ومن تماسكهم، وزادهم قوّة ومناعة لمواجهة التحدّيات والأخطار، وأقفل الباب على كلّ من تسوِّل له نفسه أن يثور على الدولة الإسلامية، وهذا ما ترجم ندماً واعتذاراً من قبل الذين تخلّفوا عن الالتحاق بالجيش الإسلامي الذي قصد تبوك.
مصر الآن تحتاج ل "شعب العسرة": وبهذا قدمت لنا غزوة تبوك نموذجا عمليا لما نحن عليه الآن في بلدنا الحبيب مصر فقد بكي شهداء كثر من قبل أن يبتسموا للموت في جنبات ميدان التحرير وغيره لأنهم لم يجدوا ما يحملون عليه من الحريات والعدالة والأمان في أوطانهم.
وفي المقابل قد تخلف ذوو القلوب المريضة والمستوحشة معلنين عدائهم الصريح لكل ما هو مصري ، ينشرون الفساد والفوضي في أنحاء مصر ،وتعطيل مسيرة معركة أعلنت يوم 25 يناير لتحرير مصر من قيود الظلم والأنانية المسيطرة علي مجمل الشعب المصري.
والآن ونحن في مفترق الطرق نتأهب بشعب العسرة لنواجه محن السياسة المغرضة والتلاعب بما نملك من قوة ومال وعدة، إرضاء للمصالح الشخصية ،وإهمالا لأمر الله تعالي بإقرار العدل والمساواة والشورى ،ولا نجد بيننا من يقودنا إلي صالح رشدنا أو حتي يعمل من أجل الإصرار علي إنقاذ مصر من الغوغائية .