حينما يقترب الإنسان من الستين من عمره تنطلق فيه مكنون النفس السوية ورقة القلب المثقل بهموم الفرص وهدوء المشاعر كي يقدم الإنسان لخلفه الوصية. فالإنسان في نهايات الخمسين والاقتراب من الستين لا ينبغي أن يكابد الحياة. ويشق دروبها كي يترك لخلفه مالا أو جاها أو عقارات أو غير ذلك.. ينبغي أن يبحث عن مخرج آمن له من الحياة. فما جمعه قد جمع.. وما لم يجمعه لم يأت بعد.. ووصيتي لوحيدي ابني فلا أوصيه بتقوي الله وإنما أوصية بمفردات هذه التقوي فكلمة تقوي الله مطاطة لا تعرف مداها أو حجمها.. ولكننا في حاجة لمعرفة مفرداتها كي نصل إليها.. أولي هذه المفردات.. أن تبرني.. تبر والدك حياً أو ميتاً وأزهي صور البر.. أن تسد ديني.. فظهري مثقل بالديون ومن حسن حظ والدك أن أصحاب "الدين" أحياء أو أمواتاً لم يطلبوه بل عفوا عن "دينهم" ولكن من حسن الكرم أن نسدد ديوننا مهما كان زهد أصحابها فيها يا ابني الحمد وحتي كتابة هذه السطور لم يقلق مضاجع والدك. دين أو مطالبة بدين. ولكن ديني لأشخاص.. بذلوا ما في طاقتهم وما جمعوه من خبرة في حياتهم كي يعلموا أبياك.. علموني كيف أمسك الشباك واصطاد كي اقتات لقمتي ولقمتك. علموني كيف أشعل عود الثقاب كي أطهي لك كوباً من اللبن خالياً من الدسم الحرام. يا بني : في حياة أبيك أساتذة.. علموني.. فلم يبخلوا بجهدهم وأرشدوني فلم يضنوا عليّ بخبرتهم. فاتت ربما تكون في يوم ماذا شأن في مجالات الحياة.. في القضاء.. في الفن.. في المجتمع وربما تتعامل مع أبناء هؤلاء الأساتذة.. أو أحفادهم.. ففور لقياهم ومعرفتهم فأسرع برد جميل أبوتي فيهم. وردما صنعته من أجلك إليهم. أما اذا تقابلت مع هؤلاء الأساتذة.. فانحني مهما كنت وانتزع أيديهم وقبلها فهذا خير ما تقدمه لوالدك مع التصدق علي روحي. يا بني : أطلت عليك في بيان مكنون أخلاقي وخبايا تجربتي وأذكر لك أحد من قدم لأبيك جهده دون الانتظار لكلمة شكر عليك دائماً أن تذكرة جيداً وتحفره في روعك وبين أعينك الأستاذ مؤمن الهَّباء رئيس تحرير جريدة المساء السابق. وفي لمحة خاطفة أذكرك به. كنت في أواخر التمانينات من القرن الماضي شابا يريد أن يتلمس طريقا يسلكه ليكون صحفياً.. التحقت بجريدة "النور" التي كانت لسان حال التيار الإسلامي كله رغم امكاناتها المادية المتواضعة وكان يرأس تحريرها شاب في عمره. شيخاً في مهنته تنطلق من نسمات وجه الصرامة. والحدة. وينطوي قلبه علي كل منابع الخير. والمشاعر الدافعة. فهو في خارج العمل هادئ الطباع. رقيق المشاعر. طيب الكلمة. أما في العمل فهو أسد جسور.. له زئير يخلق فينا الزعر. يطعمنا طعامه ويسقينا ماءه ويدفئنا بعبايته. كان يعاملنا أحياناً بشدة وغلظة وأحياناً أخري يكون أحن بنا من الأم بولدها. فعلمني كيف استقي الخبر الصحفي. علمني كيف أصيغ الخبر صياغة صحفية. ثم علمني بقية فروع الفن الصحفي.. علمني كيف أمسك القلم.. وبأي مداد أضخه في قلمي. كنت أرغب في سرد العديد والعديد من مآثر هذا الاستاذ.. فها هي الحياة كما كبلتني في أيامي الماضية ألا أرد له ضيعته.. فها هي المساحة المحددة لي تعاود الكرة وتغل يدي في أن أسرد مآثر من علمني.