لقد ألقي رسول الله صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع التي أتي إليها الألوف من المسلمين ليحجوا معه خطبة شاملة جامعة تتضمن الدروس والعبر الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. سوف نركز علي ما ورد بها من جوانب اقتصادية لنستنبط منها بعض أسس الاقتصاد الإسلامي ولنوضح للناس أن الإسلام نظام شامل ومنهج حياة شعائر وشرائع. عبادات ومعاملات. يوازن بين الروحانيات والماديات في إطار متوازن بحيث لا يطغي أحدهما علي الآخر. 1 تحريم الاعتداء علي المال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "يا أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلي أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. وقد بلَّغت".. فيؤكد رسول الله صلي الله عليه وسلم علي حماية المال والمحافظة عليه وتحريم الاعتداء عليه سواء من الأفراد أو من الحكومات لأن المال هو قوام الاقتصاد والحياة فإذا تم الاعتداء عليه هرب من مجال النشاط الاقتصادي وتعطلت الأعمال. وحدث الخلل بين دروب الحياة الاقتصادية وفي هذا تأكيد علي وجود الملكية الخاصة للمال في النظام الاقتصادي الإسلامي. 2 المساءلة عن الأعمال ومنها المالية: يوضح الرسول أن كل مسلم سوف يلقي الله عز وجل وسوف يسأله عن أعماله. ومنها المعاملات المالية فيقول: "وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم" ويزيد هذا الأمر وضوحاً قول الرسول صلي الله عليه وسلم في مقام آخر "لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتي يُسأل عن أربع: منها عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه" وبهذا يتضح أهمية قاعدة "محاسبة المسئولية" سواء في الدنيا بواسطة الفرد أو بواسطة الغير أو في الآخرة عندما يقف الفرد أمام الله عز وجل للمحاسبة والجزاء "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً". 3 تأدية الأمانة: ورد في خطبة حجة الوداع أيضاً قول الرسول صلي الله عليه وسلم : "فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من ائتمنه عليها" وفي هذا تأكيد علي أهمية رد الأمانات وترسيخ الائتمان في مجال المعاملات الاقتصادية فلا اقتصاد بلا أمانة. ولقد ورد في الحديث "إن التاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة". 4 تحريم الربا بجميع صوره: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم أيضاً في هذه الخطبة: "وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم. لا تظلمون ولا تظلمون قضي الله أنه لا ربا. وأن ربا العباس بن عبدالمطلب موضوع كله". لقد وضح الرسول في هذه الخطبة وهي آخر خطبة له في آخر أيامه أن الربا محرم تحريماً قطعياً وأعطي نموذجاً عملياً. وهو المعاملات الربوية التي كان يقوم بها عمه العباس بن عبدالمطلب.. وذكر الرسول لفظ "موضوع كله" للشمولية والعموم حتي لا تكون هناك ثغرة ينفذ منها ذوي النفوس الضعيفة. وليس هذا المقام لبيان الآثار السيئة للربا علي الاقتصاد ولكن لنوضح لبعض من الناس يزعمون جهلاً وتجاهلاً أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد مات ولم يحسم قضية الربا. 5 ضوابط اقتصادية من خطبة الوداع: تعتبر الأوامر السابقة من مقومات الاقتصاد الإسلامي. وهي التي تحقق للمجتمع الاستقرار والأمن والنمو وتحقق للأفراد الحياة الرغدة في الدنيا والفور برضاء الله في الآخرة. فلا يمكن أن يكون هناك اقتصاد ينمو دون أن يكون المال في أمن. فالمال المهدد بالمصادرة والابتزاز والسرقة والاعتداء عليه لا يمكن أن يؤدي دوره في التنمية. كما أن إدارة الأموال بدون مساءلة أو رقابة أو ضبط يؤدي إلي السرقة أو الاختلاس أو إنفاق في غير الضروريات والحاجيات بل ربما يوجه إلي إشباع الرغبات الشيطانية وهذا يسبب الفساد وعدم الاستقرار. كما أن الخيانة وعدم الوفاء بالوعود والعهود يسبب تعطل المعاملات. فالتاجر الصادق الأمين السموح القوي الفقيه له دور في تحقيق الرخاء الاقتصادي. ويرحم الله التاجر إذا باع وإذا اشتري وإذا اقتضي. وتعتبر المعاملات الربوية السائدة هي أساس من أسس ارتفاع الأسعار والتضخم والبطالة ولقد أكد ذلك علماء الاقتصاد الوضعي أنفسهم. ألم يأن لأولي الأمر المسلمين أن يمنعوا المعاملات الربوية التي سببت المحق وأن يطبقوا هدي رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي يعيش الناس في أمن وأمان ورخاء واستقرار؟! تؤكد الخواطر السابقة أن الإسلام دين شامل لكل نواحي الحياة فيه اقتصاد وسياسة وحكم. وخطأ ما يشاع جهلاً أو تجاهلاً بأن الإسلام دين عبادات فقط ولا دخل له بنواحي الحياة الأخري. ففي فريضة الحج وهي شعيرة تعبدية كما يعتقد البعض نجد أن الرسول صلي الله عليه وسلم قد تعرض فيها لمجموعة من الضوابط الاقتصادية ليعلن للعالم من أكبر مؤتمر إسلامي لمسلمين أن الإسلام منهج حياة وهو دين ودولة. ويجب علي الحكومة أن تتخذ من الدين سنداً لها في إدارة شئون الدولة الاقتصادية والمالية. ويؤكد هذا المعني المهم في أنه كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثموا أن يتَّجِروا في موسم الحج فنزل قول الله تعالي : "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" وفي هذا قال المفسرون: "ليس هناك حرج شرعي في مباشرة المعاملات الاقتصادية في موسم الحج". وبذلك تمتزج العبادات بالمعاملات. ندعو الله سبحانه وتعالي أن تكون هذه الخواطر الاقتصادية دستوراً نلتزم به في جميع أمورنا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.