إن واجب أمتنا الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها أن تتمعن جيداً أهم بيان نبوي، وأعظم وثيقة عرفتها البشرية لحقوق الإنسان، عبر الزمان! لقد كانت هذه الوثيقة العظمي تمثل المحجة البيضاء التي ترك رسول الله صلي الله عليه وسلم أمته عليها. إنها خطبة الوداع في حجة الوداع، قبل أن يودع الحياة والناس، وعلي الأرض المقدسة أرض عرفات خطب الناس وقال: »إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا، دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد وقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع »أي باطل« وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله..« إلي أن قال: ».. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده، إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة: يرفعها إلي السماء بنكتها إلي الناس، اللهم اشهد اللهم فاشهد. ثلاث مرات« رواه مسلم. لقد أكد علي حرمات النفس والمال والعرض، وأبطل ما كانوا عليه في الجاهلية من العدوان والقتل وإراقة الدماء، كما أبطل الربا وبدأ بأهل بيته فقال: وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبدالمطلب، وأكد حرمة النساء وحقوقهن وأمر الناس أن يتقوا الله في النساء. ثم قرر أنه يتركهم علي المحجة البيضاء إن اعتصموا بكتاب ربهم فلن يضلوا. وقرر هذه الحرمات والحقوق وأكد عليها في خطبته في حجة الوداع في يوم النحر: عن أبي بكر أن النبي صلي الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: »ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادي وشعبان، ثم قال: »أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتي ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلي، ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتي ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلي، ثم قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتي ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس البلدة »أي البلد الحرام مكة« قلنا: بلي قال: »فإن دماءكم وأموالكم وأحسبه قال وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعل من يبلغه يكون أوعي له من بعض من سمعه« رواه أحمد والبخاري في التفسير وغيره، ورواه مسلم. قال الله تعالي: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم.. سورة التوبة63. وفي ثاني أيام التشريق وسمي بيوم »الرؤوس« لأنهم كانوا يأكلون فيه رؤوس الأضاحي. كانت لرسول الله صلي الله عليه وسلم خطبة أخري، عن سراء بنت نبهان رضي الله عنها أنها قالت: خطبنا رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم الرؤوس فقال: »أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أوسط أيام التشريق، هل تدرون أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا المشعر الحرام، وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا حتي تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم وإني لا أدري لعلي لألقاكم بعد هذا ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلغت؟« وعن أبي نضرة رضي الله عنه أنه قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلي الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أنه قال: »أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي علي عجمي ولا لعجمي علي عربي، ولا لأحمر علي أسود، ولا لأسود علي أحمر إلا بالتقوي، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلي الله عليه وسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن سورة »النصر« أنزلت وسط أيام التشريق، وهي: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً« وعرف رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه الوداع، فركب ناقته القصواء، ووقف عند العقبة، واجتمع الناس فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: »أيها الناس إن ربكم واحد، وإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا..« ومن أجل ذلك سميت هذه الحجة »حجة الوداع«. لقد أعلن رسول الله صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع إبطال الربا وبدأ بربا عمه العباس، ليكون في هذا التحريم النهائي للربا وقال صلي الله عليه وسلم: »وأول ربا أضعه بالعباس بن عبدالمطلب«. وقرر عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع حرمة النفس والمال والعرض »إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..« وأكد عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع علي مكانة المرأة وحذر من ظلم النساء ووجه الأمة في ذلك توجيهاً مؤكداً حين قال: »الله الله في النساء فإنهن عوان بينكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله« كما أكد الرسول صلي الله عليه وسلم علي التمسك بالكتاب والسنة، وحذر من عدوان الناس بعضهم علي بعض فقال: »لا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض«. وأكد مبدأ المساواة ونادي الناس جميعاً قائلاً: »يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي علي عجمي ولا لعجمي علي عربي ولا لأحمر علي أسود ولا لأسود علي أحمر إلا بالتقوي«.. كلكم لآدم وآدم من تراب »إن أكرمكم عند الله أتقاكم« ولا يخفي ما لمبدأ المساواة من أهمية عظمي لدرجة أن سمة الحجاج البارزة في زيهم وشكلهم وإحرامهم هي المساواة فهم جميعاً زيهم واحد: الإزار والرداء، ليس في هذا تمييز لأحد إنهم يخلعون ملابسهم الدنيوية التي تظهر التميز والفرق بين الغني والفقير، أما في الحج فلا يستطيع أحد أن يميز بينهم لأن جميع الناس سواء في شكلهم وفي زيهم حال إحرامهم. وهكذا نري أن حجة الوداع قد أكد فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم حقوق الإنسان، ما يتعلق منها بالنفس أو بالمال أو بالعرض، وحقوق المرأة، وحق المساواة بين الجميع إنها مبادئ الحق والعدل والإنصاف بترك الرسول صلي الله عليه وسلم أمته عليها، موضحاً أن تمسكها بكتاب ربها وسنة نبيها واعتصامها بحبل الله في ذلك كله النجاة من الفتن ما ظهر منها وما بطن. ولقد كان له صلي الله عليه وسلم في يوم عرفة دعاؤه الذي أعلن فيه توحيد ربه، وحمده وشكره له، والإقرار بأنه يراه ويسمع كلامه، ويعلم سره وعلانيته ثم يعطي القدوة من نفسه لأمته وهو يستغيث بربه ويستجير به قائلاً: »لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو علي كل شيء قدير، اللهم لك الحمد كالذي تقول وخيراً مما تقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي ولك ربي تراثي، الله إنك تسمع كلامي، وتري مكاني وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفي عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، والمستغيث المستجير والوجل المشفق، والمقر المعترف بذنوبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه وذلّ جسده، ورغم أنفه.. اللهم إني أعوذ بك من وسواس الصدر، وشتات الأمر، وفتنة القبر، وأعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الريح وشر بوائق الدهر، اللهم كن لي رءوفاً رحيماً فاشرح صدري ويسر لي أمري، واجعل في صدري نوراً وفي قلبي نوراً وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً ولا تجعلني بدعائك رب شقياً، يا خير المسئولين ويا خير المعطين«.