يحتل موضوع التصوف أهمية كبري في حياتنا الفكرية المعاصرة. وقد اختلفت آراء الباحثين في تصوف العصر الحديث. حيث رأي أهل الإنصاف من البحاث الموضوعيين فيه عنصراً إيجابياً في توجيه الحياة الاجتماعية والعقلية والسياسية وخاصة في الدعوة إلي تزكية النفس والدفاع عن الأصول والثوابت والقيم وبث الحماسة في الجماهير التي انقادت لمشايخ المتصوفة. في حين رأي فيه المغرضون كثيراً من ألوان السلبية التي انحصرت في بعض النماذج من الطرق المختلفة المناقضة للتصوف الحقيقي في تعميم لا يستقيم عند الباحث المتأمل لوقائع التاريخ وأحداثه. إلا أنه ونتيجة لتطور مناهج البحث الذي أضحي أكثر دقة وموضوعية في الآونة الأخيرة. بدأت تبرز دراسات محكمة كانت سبباً في عودة الاتجاه الصوفي بقوة إلي المواجهة وبدأ انهيار تلك الصورة القائمة التي كانت تقدم حول هذا التيار الفكري الراقي. من التيارات التي عرفها الفكر الإسلامي طيلة عهود طويلة من الزمن. وذلك بعد سقوط الأنظمة المناوئة لهذا الاتجاه وفشل الحركات السلفية في قيادة المجتمعات الإسلامية حتي باتت هذه المسألة من أهم القضايا المحورية التي يدور حولها النقاش حالياً بين المفكرين المسلمين وغيرهم. فقد اعتنق الكثير من الغربيين الإسلام عن طريق التصوف الاسلامي وأصبح التصوف اليوم هو المظهر الرئيسي للإسلام بالنسبة لكل باحث منهجي موضوعي يبحث في أحوال المسلمين وحضاراتهم وأن الكثير من الدراسات حول الحضارة الإسلامية. منصبة حصراً علي التيار الصوفي دون غيره وأكثر المفكرين والفلاسفة مقرونية لدي الغربيين هما ابن عربي وجلال الدين الرومي. وهما من اقطاب التصوف الإسلامي يقول المستشرق الفرنسي المسلم "اريك جيوفروي" استاذ التصوف بجامعة لوكسمبورج الفرنسية : "ان المستقبل في العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي. ويري أيضا أن الصوفية قد مارسوا السياسة في أحيان كثيرة كما مارسوا أدواراً ثقافية واجتماعية. ثم إننا يمكن أن نلحظ أن هناك مداً جديداً من الأجيال الجديدة يعي الابعاد الاجتماعية للصوفية. والملف للنظر أن الكثير من البحاث الغربيين باتوا يدركون التأثير الصوفي علي مفكري عصر النهضة الأوروبي. فبدأت تبرز دراسات تتحدث عن تأثر ديكارت في منهجة المبني علي الشك بفكر حجة الاسلام ابي حامد الغزالي. وتأثر من يرونه منظراً للديمقراطية الليبرالية الحديثة سبينوزا في رؤيته لوحدة الوجود بالشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي وغيرهم. من خلال هذه المنطلقات والمعطيات أردنا الخوض في هذا الموضوع وأن نبحث في سبب احتلال هؤلاء الصوفية هذه المكانة الرفيعة. ونري ماذا قدم التصوف والصوفية للمجتمع المسلم؟ وما الذي يمكن أن يقدمه لحل أزمة العقل المسلم المعاصرة وهل اقتصر دور المتصوفة فقط علي التحرير الذاتي. وتطهير النفس من الأهواء؟ وهل مكثوا في زواياهم يرددون اسم الله الأعظم ويبحثون عن غوث الزمان. غير ملتفتين إلي ما يجري حولهم من تطورات وتغيرات كما يري بعض الناس؟ أم أنهم سعوا إلي تغيير واقعهم والمحيط الذي يعيشون فيه وخدموا مجتمعاتهم عند اشتداد الأزمات وقادوها إلي بر الأمان؟ نماذج مشرقة يستطرد د. الشحومي قائلاً : إن الإجابة علي مثل هذه التساؤلات يتطلب أبحاثاً ودراسات جادة ومعمقة. وأذكر هنا بعضا من ملامح المتصوفة وتأثيرهم في منطقة الشمال الافريقي بإيجاز شديد. حيث كانت أحوال المتصوفة هي السمة الغالبة علي مجتمع الصحابة أيام الرسول صلي الله عليه وسلم من نقاء وطهر وإخلاص وزهد. ناهيك عن مقاماتهم العلية. وأي مقام أعلي من صحبة خير البشر صلي الله عليه وسلم فقد كان عصره. ربانيا مباركا. وسيلاحظ المدقق في الحياة الاجتماعية الناتجة عن الفتوحات الإسلامية الممتدة الحالة التي تداعت له أحوال المسلمين بعد انتشار دولتهم واقبال الدنيا عليهم. وانغماس الكثيرين منهم في اشباع الرغبات والشهوات فتبدلت أحوالهم وتدنت مقاماتهم عندها ظهر المتميزون بمجاهدة انفسهم الحريصون علي الاقتداء بحياة الرسول صلي الله عليه وصحبه المتأملين في ملكوت الله المصرين علي التقوي. فتميزوا بين الناس فرادي أول الأمر مثل أويس القرني وغيره ثم ظهر التصوف في التاريخ الإسلامي كمنحي فكري نظري بداية من القرن الثالث الهجري. وذلك في عاصمة الخلافة العباسية بغداد. علي أيدي رجال شهد لهم الأعداء قبل الأصدقاء بالعلم والفضل والصلاح. وأرسوا قواعد هذا التيار الحديث النشأة. ورسموا له الأسس المنهجية التي بني عليها ولا تزال.وأول ما عرف العالم الإسلامي من الطرق: الطريقة القادرية. والمدينية. والرفاعية. والشاذلية. والخلوتية. وكان من أوائل وأحد أوتاد الطريقة الصوفية في شمال افريقيا : الشيخ أبومدين شعيب بن الحسن الأندلسي. وقد عرفت طريقته "المدينية" شهرة واسعة وأتباعاً كثيرين. في مختلف أنحاء الشمال الافريقي. وازدادت شهرة علي يد تلميذة : "أبوالحسن الشاذلي وكان لتعاليم الشاذلي الأثر الأكبر بحيث يمكن الجزم بأن معظم الطرق التي ظهرت بعد القرن الثامن من شمال افريقيا تتصل بطريقة أو بأخري بالطريقة الشاذلية. ومن أبرز علماء الشمال الافريقي الذين شاع التصوف العملي وانتشر بفضلهم المرسي ابي العباس وأحمد البدوي وأبي عطاء الله السكندري وعبدالرحمن الثعالبي وأحمد زروق وعبدالسلام الأسمري وأمحمد بن عيسي وأحمد بن إدريس وغيرهم. عوامل الانتشار يضيف د. الشحومي : ويمكن أن نرجع عوامل وأسباب انتشار التصوف في شمال افريقيا. إلي أسباب فكرية. وأسباب سياسية. وأسباب اجتماعية : 1 أسباب فكرية : كوجود أعلام صوفية عملوا علي نشر هذه الطرق. أثروا بسلوكهم وبعلمهم وبمؤلفاتهم. من أمثال الشيخ أبي مدين. والشاذلي. والملياني. والثعالبي.. وغيرهم. وبدأ الفكر الصوفي يبرز علمياً بعد محاولة الإمام الغزالي التوفيق بين الشريعة والحقيقة. خاصة ما طرحه حول مراتب العقل بداية من العقل الكسبي وهو مدخل المعرفة. ثم العقل الذوقي وهو مدخل التقوي بالتزام العارف بما عرف. ثم انتظار الموهبة. وهو مدخل العلم اللدني "واتقوا اله ويعلمكم الله". 2 أسباب سياسية : نتيجة لأسباب داخلية وخارجية تدهورت أوضاع المنطقة سياسياً لعدة أسباب أهمها وأخطرها سقوط الأندلس وقد نتج عنه أمران : الغزو الاسباني لمعظم الشمال الافريقي. وهجرة كثير من صوفية الأندلس إلي شمال افريقيا. 3 أسباب اجتماعية : منها انتشار البذخ والترف عند طبقات معينة. نتيجة الثراء الفاحش. وتراجع الدينية والاخلاقية حيث أهمل الخاصة والعامة الكثير من مبادئ الدين وسلوكه القويم. وقد حارب الصوفية هذا الانحراف. وقاوموا بكل السبل والطرق هذه الاختلالات. مما أدي إلي انتشارهم جماهيرياً. يضيف د. الشحومي : لقد أثرت بعض الشخصيات الصوفية اللجوء إلي الخلوات والمقابر زهداً وتعبداً وتجرداًو لكن هذا الكلام لا ينطبق علي كل المتصوفة بل هي حالات استثنائية خاصة ثم إنهم يرون أنه عندما يدعوهم الواجب. سيتخلون عن مجاهداتهم الخاصة وينتقلون إلي خدمة الصالح العام. ولعل أبرز مثال علي ذلك الشيخ البدوي الذي خرج من عزلته لمقاومة الغزو الصليبي. والأمر نفسه حدث مع أبي الحسن الشاذلي وتلاميذه وكان آخرهم وليس بأخيرهم شيخ الشهداء عمر المختار الذي خرج من خلوته التي كان يعلم فيها القرآن إلي ساحات الجهاد مدافعاً عن أرضه ضد جحافل الطليان الطغاة. ولابد أن يبرز هذه الأيام من يحمل لواء المقاومة للذود عن حياض الإسلام في هذا الوقت العصيب. لقد باتت المجتمعات المسلمة في أمس الحاجة لإعادة الاعتبار للتربية الإسلامية الصحيحة وتزكية النفوس والالتزام بمنظومة الاخلاق التي بينها الشارع الحكيم فمشكلة المسلمين تكمن اليوم في أن يلتزموا بها عرفوا من الحق. وأن من الحق ويتواصوا الصبر علي الوقوف موافقة ليتم استثناؤهم من الخسران. "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" والله المستعان عما يصفون.