أثار ظهور التيار السلفي علي الساحة السياسية ونجاحه الساحق في الانتخابات. حفيظة البعض وأنعش ذاكرة البعض الآخر باستحضار مواقف للتيار السلفي لم تغب عن العقل الجمعي للناس في الداخل والخارج.. واعتذر بداية عن عرض تفاصيلها لعدة أسباب أهمها: أولها: انها تضمنت هجوما علي هذا التيار أري انها لا يستحقه. ثانيها: انها رأت في الاجتياح الثقافي والتشويه المتعمد لذلك التيار فرصة ليذوق من خلالها مرارة جرأته علي علماء الأمة ورموزها وليعرف طعم الهجوم الضاري الذي مارسه ضد مخالفيه عندما اعتقد انه احتكر الحقيقة وحده.. وتلك في نظر البعض فرصة للمراجعة والكف عن الهجوم المعيب. وتصنيف الناس والتفتيش في مكنون قلوبهم. ولابحث عن عقائدهم. ووضعها في الميزان. كما فعلوا مع كثير من الرموز الكبيرة من القدامي والمحدثين.. وهذا توجه لا أقبله ولا أرتضيه مهما كان. لانه لا يجوز ترك نصرة المسلم والوقوف متشفيا برؤية الهجوم الضاري عليه. ولكي تكتمل الصورة وحتي يكون الكاتب والقارئ علي موجة واحدة فإني استأذن القارئ شاكرا وممتنا أن نستحضر وإياه جغرافية المناخ النفسي والاجتماعي الذي عاشته مصر وطنا ومواطنين خلال العقود الثلاثة الماضية. ويمكننا أن نعرض صورة لهذا المناخ وباختصار فيما يلي: 1- أن المناخ العام الذي عاش فيه الناس أيام حكم المخلوع كانت تسوده حالات القهر والكبت والاستبداد. صاحب ذلك ضيق كل نفس بذاتها فكانت بغيرها أضيق.. الأمر الذي ولد لدي الشعب حالة من التربص بعضه ببعض وهي حالة تقترن في عرف القانون بنية العمد والقصد الجنائي. 2- ان حالات التمرد علي الذات ورفض الواقع بدلا من أن تتجه إلي المجتمع توجهت إلي الناس فانتهي كل فريق بالآخر وساد التخبط وحلت ثقافة الرفض لا للواقع وإنما للآخر في شكل توجهه أو تياره أو انتمائه الديني أو السياسي. 3- طفحت هذه الحالة علي الحياة العامة ففشت بدعة الاستخفاف والزراية والتي تمثلت في التطاول علي الكبار والعظماء ما دام الفرد غير قادر علي النيل من نظام أهانه واحتقره واحتكر خبزه وشرابه. 4- ان تكرار التطاول علي الآخرين وبخاصة العظماء منهم شكل ظاهرة "التجاوز والاعتداء الأمني" وهي ظاهرة غريبة في المجتمع المصري ولم تكن قاصرة علي التيار السلفي وحده وفي تصوري أنها كانت رد فعل وليست فعلا كانت رد فعل يبحث لنفسه - وسط الكبت - عن مخرج للتصريف وبما ان السلطة غير مقدور عليها والاقتراب منها بالنقد يشكل مغامرة محفوفة المخاطر والناس يرون في العلماء الأجلاء انهم قادة المقاومة ضد كل مستبد جهول وعادة ما يربطون بمواقفهم تغيير المنكر والوقوف في وجه الحاكم الظالم. وعندما لا يرون لهم موقفا ولا يسمعون لهم صوتا فانهم يتطاولون عليهم وينتقصون من أقدارهم والعلماء الأجلاء كثيرا ما يكون لهم مواقف مشرفة. ولكنهم يترفعون عن الإعلان عنها أو الترويج لها وهم لا يردون علي الاساءات ولا يثأرون لأنفسهم ومن ثم كان الطعن فيهم مخرجا آمنا لتصريف طاقة الكبت والقهر والتعبير عن الغضب. 5- ان المجتمع المصري لم يكن يجتمع إلا علي الآلام والهموم والمعاناة وكانت حالته أشبه ما تكون بخناقة في سوق كبير لا يعرف فيها من يضرب من؟ ومن يصرخ في وجه من؟ في ظل هذه الحالة نحن أمام تجمع بشري بهذا الكم الهائل وقد تعددت روافده ومشاربه الفكرية والثقافية وما صدر عنه من هدير لا يمكن أن يتم تقييمه بمقياس موحد. فقد كان فيهم وفيهم. فيهم من ضاق أفقه وضاقت به نفسه فهو لا يطيق الناس ولا يطيقونه. ينتظر إليهم بشك وريبة وكأنه عداد الغلط الذي يعد علي الناس خلجات فكرهم ويتربص بكلماتهم ليبحث فيها عما يؤكد شكوكه ويمنحه حق تصنيفهم والحكم عليهم. والناس ينظرون إليه وقد استدعت ذاكرتهم كل التشويه الذي قدمته وسائل الإعلام عن هؤلاء عبر ستين سنة. فصورتهم في الذاكرة والعقل الجمعي وخصوصا في مصر وكأنهم كائنات غريبة عن المجتمع جاءت إليه من كوكب آخر لتغلق كل منافذ الحياة وتخاصم أهلها وتعود بالناس والمجتمع إلي عصر الخيام في الصحراء والبغال والإبل. وبجانب هذه الصورة المشوهة فقد وجد فيهم من زاد علمه ونضج فكره وتفتحت مداركه وسمي خلقه وانفتح علي ثقافة ومشارب الآخرين فقبل منها ورفض لكن صدره اتسع حتي لمن ينقدونه أو يعترضون عليه. كما ان رعاية الواقع دخلت للمرة الأولي في اعتباراتهم ورأينا تغييرا مدهشا في المواقف والأفكار وظهرت لغة التصالح لدي الكثيرين من التيار السلفي والمتأمل في المشهد المصري الآن يلحظ ذلك بوضوح. * بعد هذا العرض المختصر للخريطة النفسية والاجتماعية أري أن هناك أمرين أحرص عليهما وأدعو إليهما وأقدمهما في أول قائمة أولويات الفرائض الثقافية والفكرية في المرحلة الراهنة وهما: أ- وجوب الحرص علي تصحيح المسار لتيار كبير له حضوره وفعاليته داخل المجتمع المصري بشكل خاص والعالمي بشكل عام. وهذا يتطلب قدرا من تبادل الخبرات حول الذات والآخر. والتخلص من الاحساس بالاكتفاء الذاتي فكريا وثقافيا وعدم الرغبة في قراءة الآخر والتعرف عليه. ب- ان بقاء هذا التيار خارج حدود اللياقة الأدبية للاختلافات يدفع بهم إلي اتجاه يخلق العداوات ويمد في عمر الخطأ الذي يدفعهم إلي الانتقاص من قدر العلماء. وممارسة ظاهرة التجاوز والاعتداء الأمني التي أشرنا إليها. كما انه يجرئ الصغير علي الكبير. وهذه منقصة وخسارة كبري لا للتيار السلفي وحده وإنما للمشهد الثقافي بكل فصائله وشرائحه أولا. وثانيا: لأن هذا المسلك يقطع خطوط التواصل ويؤصل لخطاب الكراهية والاستعلاء واحتكار الحقيقة. ويبدد الجهد والوقت الذي يجب علي الجميع أن يبذلوه في اقامة مشروعات كبري لنهضة الوطن وانقاذه من كوارث ضياع الهوية وضياع الثروة وضياع الانسان وهذا ما لا نريده جميعا التيار السلفي وغيره ومن ثم وجب أن نلتمس لبعضنا الأعذار.