تنفرد الحضارة الاسلامية من بين سائر الحضارات بانتسابها الي الدين الاسلامي الذي تطالبنا رسالته الخاتمة في أول ما نزل من آيات القرآن الكريم بالتوحيد ليكون نقطة الانطلاق في بناء أي نسق معرفي سليم يوجه رؤية الانسان الصائبة لحقائق الوجود قال تعالي "اقرأ باسم ربك الذي خلق" العلق: 1 وكان تقرير هذه الحقيقة في العقيدة الاسلامية وما نتج عنها بالضرورة العقلية والمنطقية من مسلمات ايمانية هو الأساس لقيام نموذج انساني يستبطن قيم التوحيد والربوبية وينطلق منها كبعد غيبي يتعلق بوحدانية خالق الكون وواضع سننه ونواميسه والمتحكم في تسييره ومصيره ومن ثم فطن المسلمون الأوائل الي الحكمة من جعل التوحيد الكامل الخالص لله سبحانه وتعالي أول الثوابت الاسلامية فأيقنوا ان دور الانسان ورسالته هو تحقيق الخلافة عن خالق هذا الكون بتعمير الأرض وتحسينها وترقية الحياة عليها وتحقيق تمام الانتفاع بخيراتها وبناء علاقة الاخوة مع بني الانسان في كل مكان ووجههم دينهم الحنيف بطريق مباشر نحو تحصيل العلم النافع الذي يتحقق به صالح مجموع الأمة وإقامة أمر الاسلام وجعله فريضة واجبة الأداء بحيث يستمر تحقيق المصلحة العامة وإعلاء كلمة الله في الأرض. قال صلي الله عليه وسلم طلب العلم فريضة علي كل مسلم رواه ابن ماجة وغيره. قدم الاسلام للفكر البشري منهجا عقلانيا تجريبيا يحث علي الاستقراء والاستنباط وينمي الحس النقدي والنظرة الاستقصائية لدي الباحثين والمفكرين ويعتبر الانسان بحواسه وعقله وإرادته وبصيرته وحدسه وكل ملكاته قادرا علي استجلاء حقائق الكون والحياة في ظل القيم الايمانية الهادية. قال تعالي "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" سورة النحل 25 وقال سبحانه "ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا" سورة الاسراء 36 واستطاع المسلمون بهذا المنهج العلمي الايماني في البحث والتفكير أن يقدموا للبشرية علما وفنا وأدبا وتقنية وأن يشيدوا حضارة راقية متوازنة في جوانبها المادية والروحية حققت انتشارا ودواما متلازمين لم تحققهما أي حضارة أخري عبر العصور. عرف المسلمون الأوائل طبيعة التفاعل بين الثقافات مع الاحتفاظ بالخصوصيات فترجموا الي اللغة العربية ما يفيدهم من معارف الأقدمين وصهروا هذه المعارف في بوتقة الاسلام فجاءت حضارتهم مطبوعة بطابعه واستحدثوا علوما وتقنيات اسهمت في مسيرة الفكر البشري والارتقاء بمستوي حياة الانسان. لم يقف علماء الحضارة الاسلامية عند حد المواريث الفكرية التي نقلوها الي اللغة العربية بعد أن فهموها وشرحوها لكنهم اضافوا الكثير في مختلف مجالات النشاط الانساني فأبدعوا في ميادين الرياضيات والفلك والأرصاد الجوية والفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة والجيولوجيا وغيرها لكن ذخائر التراث العلمي للحضارة الاسلامية لاتزال بحاجة الي البحث الجاد للحصول عليها من مظانها المختلفة في أنحاء العالم وإعادة قراءتها بلغة العصر واسلوبه ومصطلحاته للوقوف علي ما بها من نظريات وآراء ونصوص علمية ذات قيمة معرفية في تاريخ العلم والحضارة والكشف عن المفاهيم والأفكار التي تشكل أساسا لكثير من المباحث العلمية الدقيقة التي تعامل اليوم كعلوم مستقلة نظرا لاتساع دائرة البحث في موضوعاتها مثل النظرية الذرية. نظرية الجاذبية. علم البصريات. علم الصوتيات. علوم البحار. العلوم البيئية. العلوم التقنية. العلوم الزراعية وغيرها.