ذكر ابن الأثير.. أن بعض أصحاب نور الدين أخذوا عليه كثرة نفقاته علي الفقهاء والفقراء والقراء. فقال في عزيمة المؤمن ويقين الخاشع: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك. فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم! كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم علي فراشي بسهام لا تخطئ وأصرفها إلي من لا يقاتل إلا إذا رآني بسهام تخطئ وتصيب. وهؤلاء لهم نصيب في بيت المال. فكيف أمنع عنهم خيراً فرضته السماء..؟ الله أكبر.. هذا هو الإيمان القوي يغمر نفساً صادقة لا يزدهيها النصر.. أو يميل بها الزهو والخيلاء.. فارس باسل يبذل قوته فيسهر ليله ويعمل نهاره ويتقدم الصفوف إلي الموت غير هياب ولا وجل.. حتي إذا رجحت كفته. وذاق حلاوة فوزه تبرأ مما نسب إليه من نجاح. وعزاه إلي كهل يصلي أو امرأة تتضرع أو مريض يمن الله عليه بالشفاء في مصحة. وكأنه بذلك يذكر قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: "مهلاً عن الله مهلاً. فلولا شبان خشع. وشيوخ ركع. وأطفال رضع. وبهائم رتع. لصب عليكم العذاب صباً" "7".. هذا مثل نشفعه بثان وثالث. فقد وقف نور الدين بجيوشه أمام قلعة "تل حارم" المنيعة!. وكانت في يد الفرنجة. وقد ملأوها ذخيرة وجنوداً وخيولاً. واندفعوا يهجمون علي ما حولها من الأصقاع عابثين مفسدين. فإذا أفعموا حقائبهم ومطاياهم بالأسلاب والغنائم كروا إلي الحصن الأشم. وقبل أن يلتقي الجمعان هاجت دوافع الإيمان يحنن نزعاً في قلبه. فغمره إشراق سماوي منير. وتوجه إلي الله بلسان يبتهل. ورأس ساجد وطرف حسير.. وصاح علي ملأ من أجناده.. رباه نسألك النصر وحدك لا شريك لك. "فنور الدين" الكلب "كذا" ضعيف ذليل لا يملك شيئاً!. ثم رفع رأسه من السجود واندفع نحو الموت حريصاً عليه!! فعاد بنصر من الله. وثناء من الأجيال. وقد أصيب عمه ذات موقعة بسهم صائب فقأ عينهاً له. ووقف العم الملتاع.. يتأوه متألماً لما حل بساحته من الفاجعة.. ولكن نور الدين يقول له في حنان الناصح ويقين المؤمن: "أي عماه والله لو رأيت ما أعده الله لك في الدار الآخرة من الأجر لأحببت أن تذهب عينك الأخري".. فليت شعري أي إيمان يضيء قلب هذا المسلم المثالي؟.. إني لأحاول أن أهدئ حرارة إعجابي به فلا أستطيع. ولولا تواتر غرائبه. ووثوق مصادره. وصدق شواهده لعددت ما كتب عنه أسطورة ترتفع عن الواقع!!. وتنزع إلي الخيال. وحسبك أن يعترف به مؤرخو الغرب من الأوروبيين. والفضل ما شهدت به الأعداء. إن الإيمان سلاح لا يفل. وقد تدجج به نور الدين فاندفع يحصد أعداء دينه حصداً لا هوادة فيه.. وها هو ذا يتجه إلي حصن "أنطرطوس" ليدير رحي الحرب طاحنة فتأتي علي الفرنجة بالحصد والتدمير. وعليه بالنصر والتأييد. ثم لا يخلد إلي الراحة بل تصل إليه الأنباء معلنة أن أهل "عسقلان" ينازلون أعداء البلاد مستظهرين بأسطول مصري خف لنجدتهم. فيري البطل أن الاتحاد قوة. ولابد من مهاجمة الفرنجة لتتفرق جهودهم في حومتين حاميتين. وكان ما أراد. فملك حصن "أفليس" وقتل من احتله من الصليبيين ثم نهض إلي غيره فغنم وظفر وتوج بنصر الله!.. ورجفت الراجفة تحت أقدام الفرنجة إذ دهمتهم الأنباء باستيلاء نور الدين علي دمشق.. لقد كان البطل الباسل يجتثهم اجتثاثاً ويقتلعهم اقتلاعاً. ودمشق ليست في حوزته. فما عساه أن يبلغ من الشكيمة والبأس وقد أضاف قوة إلي قوة وضم جنداً إلي جند..؟ ثم إن صاحب دمشق الخائن "مجير الدين" كان يمد لهم يد المعونة. ويقطعهم العمائر والحصون. ويرسل معهم الجنود والأرصاد ممن يتظاهرون بحب نور الدين وهم عين عليه ترجف به. وتنشر الإشاعات الكاذبة وتنقل الخطة المبيتة!!.. واحسرتاه! إن من بني الإسلام إناساً ران علي قلوبهم الزيغ. وطمس عيونهم الباطل. فهم في ضلالهم يعمهون!.. وقد حسبوا نور الدين يعمل لنفسه فهبوا يعملون. لا لأنفسهم بل لأعدائهم وأعدائه. وقد كان البطل النبيل يحاذر أن يمس دمشق وصاحبها بسوء. ولكن رائحة الخيانة كانت تزكم أنفه. وزاده غيظاً وحنقاً أن الخائن خاس بعهده فلم يحفظ يده حينما عفا عنه. وقد كان في طوقه أن يقذف به إلي مطرح شاسع يريح الإسلام من مخاتله المنكرة ذات الثبور والوبال.