ألسنة الدخان أثناء فض اعتصام »رابعة« فتحت استقالة نائب الرئيس المؤقت للعلاقات الدولية محمد البرادعي، المجال أمام تأويلات متباينة لقرار انسحابه من موقع السلطة، وبخاصة أن الاستقالة التي قبلها الرئيس عدلي منصور، جاءت في وقت حساس، أعلنت فيه الإدارة المصرية بدء حرب ضد الإرهاب، بالتزامن مع عملية فض اعتصامي الرئيس المعزول محمد مرسي في ميداني "رابعة العدوية" و"النهضة"، التي خلفت قتلي ومصابين في صفوف المعتصمين ورجال الأمن.. "آخرساعة" رصدت ردود الفعل المحلية والدولية، التي دوت عقب الاستقالة، وفي السياق قراءة علي لسان خبراء نفس في سيكولوجية البرادعي التي دفعته إلي هذا القرار. "لا أستطيع تحمل مسؤولية قطرة دم واحدة". عبارة تضمنها نص استقالة البرادعي، وكانت الأبرز، بحيث سلطَّت الدوائر الإعلامية الضوء حولها، وبخاصة من أراد أن يشكك في وطنية الرجل، الذي رفض تحمل مسؤولية قرار القوات المسلحة بمحاربة الإرهاب، في الوقت الذي لم يكن له رد فعل مشابه بالاستقالة من منصبة وقت كان مديراً لوكالة الطاقة الذرية، حين شنت الولاياتالمتحدة حربها ضد العراق. وقال البرادعي في رسالته إلي رئيس الجمهورية: "لقد أصبح من الصعب عليّ أن أستمر في حمل مسؤولية قرارات لا أتفق معها وأخشي عواقبها ولا أستطيع تحمل مسؤولية قطرة واحدة من الدماء أمام الله ثم أمام ضميري ومواطنيّ، خاصة مع إيماني بأنه كان يمكن تجنب إراقتها"، مشيراً إلي أن المستفيدين مما حدث هم دعاة العنف والإرهاب والجماعات الأشد تطرفاً. وأثار قرار البرادعي جدلاً في الأوساط السياسية والحزبية، وبخاصة أن الرجل كان قد شارك كممثل لعموم القوي الثورية والشعبية في الاجتماع الذي عقده وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي في 3 يوليو الماضي، وانتهي بإعلان ما سُمي ب"خارطة سياسية جديدة"، كان أبرز ما فيها تعطيل دستور 2012 وتعيين رئيس مؤقت للبلاد، بما يعني عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، بعد عام واحد علي بدء فترته الرئاسية. وتوالت ردود الفعل فور استقالة البرادعي، وخرج الرد الأول من عقر داره، حيث رفض حزب "الدستور" بالإسكندرية استقالته من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية، مؤكدا أن "استقالة رئيس الحزب الدكتور البرادعي موقف شخصي لا يمثل اتجاه الحزب حيال الموقف السياسي الراهن"، وطالبت أمانة الحزب بالإسكندرية، في بيان لها، البرادعي بالإفصاح عن تفاصيل الاستقالة إعمالاً لمبدأ الشفافية. في حين، استنكر حزب الدستور، في بيان له، ما وصفه ب"الحملة المسعورة علي شخصية الدكتور البرادعي أيقونة الثورة المصرية وضميرها الحي والأب الروحي لحزب الدستور"، وتابع البيان: "وإذ يؤكد الحزب علي أن استقالة الدكتور البرادعي من منصب نائب رئيس الجمهورية للعلاقات الدولية هو قرار شخصي له، فإننا لا يساورنا الشك أنه سيخرج إلي الشعب في الوقت المناسب ليوضح أسباب استقالته والتوقيت الذي دعاه لإعلانها". من جانبه، استنكر رئيس حزب "التجمع" اليساري سيد عبدالعال، استقالة البرادعي ووصفها بأنها "طعنة في ظهر الثوار"، وأضاف في بيان له، إن »استقالة البرادعي لم تكن متوقعة وجاءت مفاجئة، وتوقيتها سيئ وخاصة بعد صدور بيان وزير الخارجية الأمريكية بدقائق«. في السياق، اعتبرت حركة "تمرد" استقالة البرادعي في هذه اللحظات التاريخية "هروباً من المسؤولية"، وقالت في بيان لها: "كنا نتمني أن يقوم بدوره لإيضاح الصورة للرأي العام العالمي والمجتمع الدولي وشرح أن مصر تواجه إرهاباً منظماً خطورته كبيرة علي الأمن القومي المصري". بينما أشادت الجماعة الإسلامية بقرار البرادعي، وقالت إنها تقدر له هذا الموقف رغم الخلاف بين الجانبين في العديد من المواقف، وتابعت في بيان لها: "إن البرادعي استقال من حكومة الانقلاب بعد كثرة جرائمها والتي رأي فيها خروجاً عن منهجه الليبرالي وضميره الإنساني"، ووصفت موقفه هذا بأنه "حاسم جاء في توقيت دقيق، وعجز الكثيرون عن القيام بمثله". إلي ذلك، توالت ردود فعل الصحف الغربية في هذا الصدد، ففي الوقت الذي قالت فيه قالت صحيفة "تايمز" البريطانية إن "استقالة صاحب جائزة نوبل في السلام تجعل النظام مكشوفاً، وتجرد الحكومة المصرية المؤقتة من آخر حجة بأن ما قام به الجيش ليس انقلاباً"، حذرت مجلة "كومنتاري" الأمريكية من مغبة إقدام الإدارة الأمريكية علي ما من شأنه مضاعفة تردي الأوضاع في مصر. وقالت: لا شك أن استقالة البرادعي وإعلان حالة الطوارئ، ستضيف إلي الضغوط التي يواجهها الرئيس أوباما لقطع المعونة عن الجيش المصري. وتابعت المجلة "إن موقعي اعتصام الإخوان بالقاهرة، كانا أشبه بالمعسكرات المسلحة، وعليه دللت المجلة علي خطأ الدعوات بضرورة الحل السلمي التي نادي بها ساسة أمريكيون، وأكدت أن الإخوان لم يكن ليبارحوا اعتصامهم من دون تنفيذ عملية أمنية قوية". سيكولوجية البرادعي وتبدو القراءة مختلفة لقرار البرادعي من الناحية النفسية، حيث يقول رئيس الجمعية المصرية للدعم النفسي الدكتور حمدي الفرماوي، إن البرادعي ليس خائناً أو مناوراً، بل هو وطني تنقصه خبرة المواجهة والمواءمة، ولا يقصد ما فعله. فقط هو رجل يسيطر عليه أسلوب التفكير النمطي، لذلك فإن أسلوبه المعرفي من نوع المتروي السالب حيث التروي غير المتطابق مع الموقف، مثل الداعية الذي يردد نصاً يحفظه، فلا يستطيع أن يتعامل مع النص أو يفسره في ضوء الواقع، فهو لا يملك مرونة التعامل مع النص القرآني مثلاً، أو مثل المدرس الكلاسيكي الذي يري أن مهمته هي نقل ما هو في كتاب التلميذ من دون تفسيره أو تطبيقه في حياة هذا التلميذ. هكذا البرادعي يحفظ نصوص حقوق الإنسان ومعايير الديموقراطية أو أركانها، وفي نفس الوقت يجد أن ممارساتها غير مختلفة باختلاف المجتمعات أو النظم أو المشهد السياسي للدولة، فهو إذاً لا يستطيع أن يطوعها تنفيذاً أو تفسيراً في ضوء واقع جديد أو بيئة مختلفة. يتابع الفرماوي: من هنا فإن مثل هذه الشخصية لا تضع نفسها في المواجهة، وتحاول تلقائياً أن تحافظ علي الصورة العامة لذاتها عند الآخرين، فإذا فهمنا هذه الأسس النفسية للشخصية أدركنا العلة من عدم وقوف البرادعي موقفاً حاداً من اتهام العراق بالنشاط النووي، وأدركنا السر وراء استقالته أخيراً، فهو لا يستطع أن يضحي بالصورة التي شكلها الغرب عنه! ولا يستطيع مواجهة تداعيات استخدام القوة المزعومة في فض اعتصامات أنصار مرسي، فالاعتصامات من دواعي الديموقراطية، لكن ذهن من هو علي نمط شخصية البرادعي لا تصل إلي شروط الاعتصام الديموقراطي والآثار السلبية لاعتصامات "رابعة" و"النهضة"، ولا تستطيع شخصيته خوض المواجهة مع آراء الغرب وعلي رأسها الولاياتالمتحدة. من جانبه يقول الباحث النفسي بمعهد الدراسات التربوية في جامعة القاهرة وليد نادي: البرادعي يعد من الشخصيات الازدواجية التي لديها صراع داخلي بين أكثر من شخصية، فمن الصعب تحديد ما يجول في خاطره، فهو لديه قدرة هائلة علي إخفاء نواياه، ويحب أن يكون صديقاً للجميع وقادراً علي إخفاء عداوته ولا يظهرها إلا إذا كانت هناك منافسة معه. إذا كانت الأمور في يده يميل إلي التفاؤل، وإذا كانت في يد غيره وليس هو المسيطر فيميل إلي التشاؤم، رغم أنه يؤمن جيداً بالحرية وينادي بها إلا أنه قد يمارس الديكتاتورية إذا تولي سلطة. ويعرج الباحث النفسي إلي نقطة غاية في الأهمية حين يقول: أري أن بداخل البرادعي شخصية تحب خصومه. تحب أجزاء أو مكونات من شخصية الخصم، ما قد ينتج عنه ضعفاً أمامهم، لذا قد نجده ينقلب من حرب شعواء بلا هوادة إلي العفو والسلام أو المهادنة بل الصداقة أحياناً! وهناك العديد من الأشخاص لديهم تلك الصفة، وبخاصة الشخصيات الهوائية، ، وقد ظهر ذلك أخيراً في دعوته إلي ضرورة احتضان أعضاء الحزب الوطني (المنحل) وهذا يذكرني ب"متلازمة استوكهولم"، التي تطلق علي الحالة النفسية التي تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال .أيضاً لا يعد البرادعي من الشخصيات القيادية كما أنه لا يجيد المواجهة. ويُرجع نادي سبب قرار البرادعي بالاستقالة من منصبه الرئاسي، إلي ما ذكره من سمات في شخصيته، وأهمها حبه لخصومه والتعاطف معهم. أيضاً كونه رجلاً أحب ودرس القانون ومن عائلة حقوقية، فهذا يجعله يميل إلي جانب العدالة، فقد رأي فيما حدث خروجاً علي منهجه الليبرالي وضميره الإنساني، حيث قال "من الصعب عليّ أن أستمر في حمل مسؤولية قرارات لا أتفق معها". وأخيراً يري أخصائي المخ والأعصاب والطب النفسي بالمستشفيات التعليمية الدكتور عطية عتاقي، أن ما فعله البرادعي هو نفس ما فعله عندما تراجع عن خوض الانتحابات الرئاسية في 2012 وهذه المرة انسحب بعد سقوط ضحايا ومصابين في عملية فض اعتصامي "رابعة" و"النهضة"، فهو شخصية لا تتحمل ضغطاً ومسئولية ولا يحب المواجهة والمقاومة، كما أنه يحمل جائزة عالمية وقد ينظر العالم له علي أنه مشارك في قتل، وما حدث في عملية "الفض" رغم أن الحكومة تراه صحيحاً، إلا أن الوضع يختلف من وجهة نظر البرادعي وبحسب سمات شخصيته، فهو يرصد ويصوغ كل الأمور والسلوك وإيقاع الحياة طبقاً للقواعد والنظم المتعارف عليها، ولا يحب أن يضع نفسه بين القيل والقال، وعموماً فإن تخبطه في القرارات السياسية، يدل علي أنه لا يُدرك الوعي الشعبي، وقراره الأخير بالانسحاب يعكس رغبته في الابتعاد عن المشاكل.