جمال عبدالناصر اللجنة الدستورية وجدت أنه لا محل لمؤاخذة الأعضاء المنحرفين بمجلس الأمة ورئيس مجلس الأمة يرد عليه: ده يبقي شغل عيال بعد ثورة 2591.. وتحديدا بعد صدور الدستور المؤقت عام 6591، تصور المصريون أن الحكم سيعود للشعب.. وأن طوائف الشعب ستنتخب ممثليها في أول مجلس للأمة بعد قيام الثورة يكون مسئولا عن حماية الشعب. وعاش الناس آمالا عريضة.. فهذه أول مرة تجري فيها انتخابات سوف تعبر تعبيرا صادقا عن إرادة الشعب في اختيار ممثليه.. وبدأ الاستعداد للحياة الحرة الديمقراطية التي وعد بها عبدالناصر الشعب المصري بعد أن حل مجلس قيادة الثورة في يونيو سنة 5691.. ولكن.. بدأ أول اعتداء علي الحريات مع بدء المعركة الانتخابية .. فقد أصدر عبدالناصر فجأة بصفته رئيسا للاتحاد القومي، قرارا بغلق بعض الدوائر الانتخابية علي مرشح واحد.. هو من رجال السلطة، وإعادة التأمين لغيره من المرشحين.. وأصبح عدد من أعضاء مجلس الأمة بهذا القرار »معينين« أعضاء في المجلس! وهكذا كانت بداية الديمقراطية المزيفة.. وسرعان ماشهد مجلس الأمة أول أزمة بعد انتخابه وتولي عبداللطيف البغدادي رئاسة المجلس.. أزمة مديرية التحرير.. جاءت الأزمة نتيجة الاصطدام بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية علي شكل سؤال تناول مديرية التحرير والتصرفات المالية المشبوهة التي تتم فيها والاعتمادات الكبيرة التي تنفق دون عائد ملموس. وانتهت مناقشة السؤال إلي اتخاذ قرار بتشكيل لجنة تحقيق تنتقل إلي مديرية التحرير وتقدم تقريرها بعد عودة المجلس من إجازته في نوفمبر عام 7591. لكن خبرا صغيرا تم نشره خلال إجازة المجلس فجر الأزمة مبكرا وقبل تقرير اللجنة.. فقد تضمن الخبر أنه تم تعيين ثلاثة من أعضاء مجلس الأمة كمستشارين في مديرية التحرير بأجر.. كان مجدي حسنين أحد ضباط الثورة مسئولا عن مشروع مديرية التحرير.. وكان معروفا أن عبدالناصر يحمي مجدي حسنين.. والهجوم علي مجدي وكشف ماتردد عن تلاعب في أموال مديرية التحرير سيؤدي إلي أزمة بين عبدالناصر والمجلس.. وبالفعل تقدم عشرة من أعضاء المجلس بطلب تم تقديمه إلي رئيس المجلس لإسقاط العضوية فورا عن أربعة أعضاء هم: مجدي حسنين بصفته المسئول الأول عن المساس بكرامة أعضاء المجلس ومحاولته التأثير عليهم بتعيينه ثلاثة من أعضاء المجلس هم: محمود القاضي وأحمد شفيق أبوعوف وإسماعيل نجم مستشارين في مديرية التحرير بأجر. ووصل الخبر إلي عبدالناصر الذي طلب من عبداللطيف البغدادي رئيس المجلس عدم فصل الأعضاء والاكتفاء باعتذار منهم ويكتفي المجلس بتوجيه اللوم لهم.. ولكن البغدادي قال لعبدالناصر: أنا سأتبع اللائحة.. واللجنة هي التي تقرر ماتشاء.. واستمعت لجنة الشئون الدستورية إلي أقوال الأعضاء وعكفت علي كتابة تقريرها.. وتلقي عبداللطيف البغدادي اتصالا تليفونيا من عبدالناصر أبلغه بعدم فصل مجدي حسنين لأنه منهار جدا.. ورد البغدادي: إن بقاء مجدي وفصل الأعضاء الآخرين سيفسر علي أنك تسانده وتؤيد الانحرافات.. وأري أن نترك المسألة لتقدير اللجنة. وفي نفس اليوم.. أذيع في نشرة الأخبار نبأ عزل مجدي حسنين من إدارة مديرية التحرير. حوار في البهو الفرعوني ويحكي عبداللطيف البغدادي تفاصيل ماحدث بعد ذلك قائلا: عقدت الجلسة وبدأنا ننظر جدول الأعمال العادي مؤجلين سماع تقرير اللجنة لعدم انتهاء طبعه وتوزيعه علي الأعضاء.. ثم رفعت الجلسة للاستراحة.. وعدت إلي مكتبي.. وأثناء جلوسي به دخل العضو سيد جلال وقال لي: لطفي واكد في البهو الفرعوني بينشر وسط الأعضاء أن عبدالناصر غير موافق أن بغدادي يذبح الأعضاء وأنه ستحدث قنبلة في الجلسة ولن يفصل أحد. فقلت له: أنت تمثل الشعب ياسيد وتستطيع أن تقول في الجلسة ماتريده.. وخرج سيد جلال، فأدرت قرص التليفون وطلبت عبدالناصر.. نقلت إليه صورة مايحدث في البهو الفرعوني كما ذكره لي سيد جلال.. ففوجئت به يقول لي: هو أنا ماقلتش لك؟ ووجدتني أسأله: قلت له علي إيه؟! فأجاب بصوته المليء بالمعاني: اللجنة الدستورية وجدت أنه لامحل لمؤاخذة الأعضاء الأربعة. فصرخت في التليفون غيظا قائلا: ده يبقي شغل عيال.. وأنهيت المكالمة وجلست في حالة غيظ شديد.. شعرت برغبة أن أخرج إلي البهو الفرعوني وأضرب كل من يردد أنني أردت ذبح الأعضاء ومنعني عبدالناصر. وانتهي طبع التقرير.. ووزع علي الأعضاء.. واستأنفت عقد الجلسة.. ووقف العضو يواقيم غبريال مقرر لجنة الشئون الدستورية يتلو تقرير اللجنة.. وجاء في التقرير بعد استعراض أقوال الأعضاء الثلاثة والتأكد من تعيينهم في مديرية التحرير بعد صدور قرار إحالة موضوعها إلي لجنة تحقيق برلمانية، أن اللجنة رأت بحث وضع مؤسسة مديرية التحرير ومركزها القانوني وطبيعة أموالها وهل هي عامة أم خاصة ودستورية الجمع بين عضوية المجلس وتقاضي مكافآت منها.. وتبين للجنة أن المؤسسة عامة لها شخصيتها الاعتبارية وتعتبر أموالها أموالا خاصة، علي أن حصولها علي المال من الميزانية العامة لايجعل مالها عاما، وأن الأموال التي تخصص لها تدخل في ذمتها وتعتبر أموالا خاصة طبقا لقانون المؤسسات. وعلمت بعد ذلك أن أعضاء اللجنة تعرضوا لضغط شديد من محمد فهمي السيد المستشار القانوني لعبد الناصر وزوج ابنة شقيقة زوجته حتي يتضمن تقريرهم هذا التفسير في أن مديرية التحرير مؤسسة خاصة حتي لاتخضع لرقابة مجلس الأمة. فصل السلطات ويقول المستشار السابق محمود عبداللطيف، وكان سكرتيرا للجنة الدستورية عن واقعة تدخل المرحوم المستشار محمد فهمي السيد: الحقيقة.. في أول يوم أحيل فيه موضوع التحقيق مع الأعضاء إلي اللجنة الدستورية جاءني محمد فهمي السيد وكنا مجتمعين وهمس لي قائلا: الحقيقة عبدالناصر عايزكم تبرأوا الأعضاء الثلاثة. فقلت له في حدة: روح قل لعبدالناصر عيب.. مش محمود عبداللطيف الذي يمكنك أن تستغل علاقتك به ليخالف ضميره.. وقل له ياريته طلب مني بنفسه هذا الطلب حتي يسمع ردي لأنني واثق أنك لن تستطيع أن تنقله له كما هو. وكانت علاقتي بعبدالناصر وطيدة جدا.. علاقة عائلية مع أهله في أسيوط.. وكانت الأبواب تفتح لي في أي وقت حتي غرفة نومه لألقاه. وانصرف محمد فهمي السيد.. والحقيقة أنه كان يفاجئنا في اجتماعات اللجنة بأفكار غريبة.. منها مثلا أنه جاءنا يوما يقول: إن مبدأ فصل السلطات أصبح موضة قديمة ويجب أن نبحث عن مذهب يجمع بين السطات.. وسألته: من الذي قال ذلك؟ فأجاب الرئيس جمال عبدالناصر.. ورددنا عليه أنا والمرحوم محمد محمود جلال قائلين في نفس واحد: الحمدلله إنه مش منتسكيو أو السنهوري أو غيرهما من أساطين القانون الدستوري.. وبعد تلاوة التقرير أخذت الأصوات علي الموافقة عليه وجاءت بالإجماع.. ويرجع ذلك إلي أن عبدالناصر طلب من علي صبري أن يتكتل نواب الشرقية مع التقرير وطلب من شقيقه الليثي عبدالناصر تكتل نواب الاسكندرية مع التقرير.. ورفعت الجلسة وعدت إلي غرفتي أكاد أنفجر من الغيظ وكان جالسا بها زكريا محيي الدين وحسين الشافعي.. ولم يكد الاثنان يرياني حتي قالا: انت بقيت سياسي خطير.. استقالة كمال الدين حسين وعدت إلي منزلي في تلك الليلة.. كنت أشعر بالألم لما شاهدته من تلاعب بالديمقراطية.. وفي صباح الخميس استيقظت علي تليفون من كمال الدين حسين قال لي: يابغدادي أنا بعت لك جواب فقلت له : إيه .. خير؟ وقال سريعا: استقالة من هذا المجلس.. بأه ده معقول ياناس مديرية التحرير تبقي مؤسسة خاصة.. أنا مش ممكن أفضل في مجلس يوافق علي كده. وسألته: انت كلمت جمال؟ فأجاب: لأ.. وأكلمه ليه؟ وانتهت المكالمة.. وعندما توجهت إلي مكتبي وجدت خطاب استقالة كمال الدين حسين علي مكتبي.. وكان نصه: السيد رئيس مجلس الأمة أرجو أن تعرضوا علي المجلس قبول استقالتي من عضويته راجيا لكم وللمجلس دوام السداد والتوفيق في العمل لخير الوطن. كمال الدين حسين 7/11/7591 وكانت عادتي أن أتلو الرسائل التي تصلني في بداية جلسة يوم الاثنين من كل اسبوع، فوضعت الرسالة في ملف الرسائل التي سأتلوها يوم الاثنين التالي وفي نفس الوقت اتصلت بجمال عبدالناصر تليفونيا وقلت له: كمال بعت لي استقالة من عضويته بالمجلس فسألني: ليه؟ وقلت له بسخرية: لأن مديرية التحرير طلعت مؤسسة خاصة!! فأنهي المكالمة قائلا: طيب.. طيب.. واتصل عبدالناصر بكمال حسين وطلب منه سحب الاستقالة، وتظاهر كمال بالموافقة.. واعتقد عبدالناصر أن كمال سحب استقالته.. وقررت أن أستقيل أنا أيضا.. وظللت ليلة الجلسة ساهرا أفكر في النتائج.. ووجدتني أحسب دخلي بعد الاستقالة.. سأتقاضي 521 جنيها يخصم منه ضرائب 71 جنيها ونصفا ولدي التزامات شهرية حوالي سبعين جنيها وبذلك لن يبقي لي سوي سبعة وثلاثين جنيها ونصفا.. وسألت زوجتي: نقدر نعيش بهذا المبلغ؟ فأجابتني متسائلة: ليه؟ وقلت لها: أنا قررت الاستقالة وهذا المبلغ هو الباقي من المعاش بعد سداد كافة الالتزامات. فقالت: نسيب مصر ونروح نقعد في البلد عندكم.. ونمت مرتاحا.. بعد أن استقر رأيي علي الاستقالة.