مشهد من »الكبار« الفيلم الأول في حياة أي مخرج سينمائي، بمثابة بطاقة تعارفة مع الجمهور، ومن خلاله يمكن أن تقرأ اتجاه تفكيره، وتعرف نواياه الفنية،هناك صنف من المخرجين يبدأ حياته وهو ناوي ومصمم يخلع آخر قطعة من ملابسه، ويقدم كل التنازلات اللازمة حتي لو لم يطلب منه أحد ذلك، وهذا الصنف يعمل كثيرا وبدون أي تمييز، فيلم ماشي، برنامج ماشي، إعلان مفيش مشكلة، أي حاجه تجيب فلوس، وطبعا لابد أن تتوقع أن هذا الصنف هو من أفسد النجوم، لأنه يقبل بتدخلهم في صميم عمله، حتي يضمن إقبالهم عليه، وطلبهم له بالإسم، لأنه مستعد أن يعمل "خده مداس "لأقل النجوم قيمة وأكثرهم جهلا! ولذلك فإن فيلم "الكبار" يضعنا من البداية أمام مخرج شاب"محمد جمال العدل" واضح عليه الجدية، والرغبه في تقديم أفلام محترمة، من حقك تسألني وعرفتي إزاي؟ بداية اختياره للتعامل مع سيناريست كبير "في القيمه" وله عشرات الأفلام الناجحة، لعب بطولتها أهم نجوم مرحلة السبعينيات والثمانينيات مثل نور الشريف، وأحمد زكي، وآخرين، ولم يفكر محمد جمال العدل في التعامل مع سيناريست من بتوع اليومين دول، حتي يضمن السيطرة عليه وترويضه ! التعامل مع سيناريست في حجم وقيمة بشير الديك يعني أن المخرج الشاب أراد أن يستند في تجربته الأولي، علي قاعده صلبة وقوية، أما الممثلون الذين اختارهم لأداء أدوار البطولة، فليس من بينهم نجم شباك له جمهور مضمون، ولكنه اختار الممثل الأفضل لكل دور، أما موضوع الفيلم فيدور حول "كمال" عمرو سعد، وهو وكيل نيابة شاب، ومتحمس، والده قاض غرس فيه عشق القانون والعدالة، أما نقطة الانطلاق، فهي اكتشاف كمال لبراءة شاب كان قد وجه له تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار، وفشل في إنقاذه من حبل المشنقة، مما يؤدي به إلي الإصابة بحالة اكتئاب نتيجه إحساس بالذنب يلازمه طوال الوقت، ويحاول كمال أن يقدم المساعدة، لأسرة الشاب البريء ولكن شقيقته "زينة"تعامله بغلظه وجفاء، رغم احتياجها هي وأمها الكفيفة "صفاء الطوخي" للمساعدة المادية! ورغم ذلك لايكف كمال عن محاولة مساندة أسرة الشاب عله يجد في ذلك، راحة لضميره المعذب، ويقرر كمال أن يترك عمله في النيابة، ويعمل في المحاماة حتي يناصر المظلومين، ولكنه يجد أن تحقيق العدالة أمر بالغ الصعوبة، في ظل وجود نفوس مريضة وأخري مرتعدة، وعلي استعداد لتقديم أية تنازلات، مما يفقد كمال إيمانه بالعدالة، ويستجيب لإغراء رجل الأعمال الفاسد الذي يلقبونه "بالحاج" ويلعب دوره خالد الصاوي، الذي يطلب من كمال تقديم رشوة لأحد القضاة "سامي العدل" مقابل أن يحكم ببراءة متهم ثابت عليه تهمة الإفساد، ونظرا لعلاقة القاضي بوالد كمال، فإن الأخير يتمكن من التسلل له واستغلال حاجته الماسة لمبلغ ضخم من المال، ليجري جراحة خطيرة لابنته الوحيدة، ويقبل القاضي مبلغ الرشوة ويحكم بما يتفق مع رغبات رجل الأعمال الفاسد، ولكنه لايستطيع أن يسكت عذاب ضميره فيقدم علي الانتحار في قاعة المحكمة، ولم يقدم المخرج هذا المشهد رغم أهميته في مجريات الأحداث، وأتصور أن الرقابة اعترضت عليه! وتتوطد العلاقة بين كمال وزينة التي تشعر بالميل له بعد طول صد، بعد أن تأكدت من صدق مشاعره، ولكنها في نفس الوقت ترفض الزواج منه، لأنها لن تنسي أنه كان سببا في شنق شقيقها الوحيد، أما الضابط محمود "محمود عبد المغني" فهو الصديق الصدوق لكمال، الذي يحاول دائما أن يعيده لصوابه، ويمنعه من الاستمرار في جلد ذاته، وتعذيب نفسه بالارتباط برجل الأعمال الفاسد، ويقرركمال وصديقه محمود الإيقاع بالحاج، والبحث في ملفاته القديمة للوصول الي منفذ أو ثغرة تتيح لهما، تقديمه للعدالة، ولكن الحاج يكتشف تلك المحاولات، ويدعو كمال لحفل في منزله وهناك يوجه له الإهانات ويسخر من العدالة التي يتمسك بها"في مشهد مسرحي طويل" ينتهي بأن يطلق كمال الرصاص علي الحاج ويرديه قتيلا! سوف تكتشف أن فيلم الكبار وكأنه مصنوع لجمهور الثمانينيات، الذي لم يكن قد وصل لتلك الحالة من السوء، بحيث يصعب عليه استطعام الأفلام الجادة، والتفاعل معها، و"الكبار" من الأفلام النادرة التي قدمتها السينما المصرية مؤخرا ويظهر فيها شخصية ضابط شرطة بشكل إيجابي بعيدا عن المبالغات المسيئة التي ملأت الشاشة في السنوات الاخيرة،فشخصية ضابط الشرطة في الكبار ويؤديه محمود عبدالمغني يلتزم بالقانون ولايتجاوز في التعامل مع المتهمين مهما كانت درجة خطورتهم ويسعي لتحقيق العدل بالوسائل المنطقية، يقدم عمرو سعد دورا يختلف كثيرا عما اعتاد تقديمه في أفلام خالد يوسف، ويبدو محمود عبد المغني مقنعا في دور الضابط الملتزم، وإن كان وجهه يعاني من بعض الانتفاخ"لا أعرف له سببا" صفاء الطوخي في دور الأم الكفيفه أداء جيد ولو أني لا أجد مبررا منطقيا لأن تكون الأمهات في الأحياء الشعبية فاقدات للبصر! زينة لعبت دورها بإتقان وإن كان يقل كثيرا عما قدمته في »بنتين من مصر«، خالد الصاوي أضاف لشخصية الشرير التقليدية بعض تصرفات طفولية تقترب بها من حافة الجنون، محمد المرشدي غاب كثيرا عن السينما، رغم أنه نموذج مختلف ويمكن أن يلعب نوعيات متنوعة من الأدوار، أما مفاجأة الفيلم فكانت مع تلك المشاهد القليلة التي قدمتها عبلة كامل "أم الضابط" مما يؤكد المقولة الشائعة أنه لايوجد دور كبير وآخر صغير، بل يوجد ممثل كبير"في القيمة" وممثل صغير وتافه! وقد أضافت عبلة كامل أبعادا إنسانية لدورها فهي الأم التي تحب ابنها وتتفهمه كما تمنح حبها لصديق عمره الذي كانت تربطها بأسرته علاقة ود وتعاطف، فيلم الكبار يحاول أن يعود بنا إلي زمن العلاقات الدافئة بين الأصدقاء والجيران تلك العلاقات التي كادت تختفي من حياتنا نتيجة عوامل اقتصادية واجتماعية صادمة، والفيلم بشكل عام إعلان عن موهبة مخرج شاب لديه ثقة كبيرة في إمكانياته وداخل السينما وهو ناوي يعمل أفلام محترمة!