في الكثير من الاحيان تتحول كلمات الاهداء والتحية الي ارواح الراحلين، والتي تتصدر "تترات" الافلام السينمائية الي حجر ثقيل يؤرق الراحل في رقدته الاخيرة في حال ما اذا ابتعد الفيلم السينمائي المُهدي الي روحه، عن "روح الابداع" التي تتوق اليها كل نفس ذائقة الموت، ولهذا السبب تملكني الخوف لحظة ان قرأت الإهداء الذي وجهته أسرة فيلم "تلك الأيام" الي روح الكاتب الكبير فتحي غانم، ولم تطمئن نفسي الا بعدما رأيت "اللوحة" الاخيرة في هذا الفيلم الجميل الذي كان اشبه بسيمف سانية قبل ان تكون سينمائية او فنية. بالطبع كان لوجود المخرج الشاب احمد فتحي غانم علي رأس التجربة دخل في هذا الاهداء، بالاضافة الي ان الفيلم مأخوذ عن قطعة ابداعية كتبها فتحي غانم بنفس الاسم، الا ان اللفتة كانت طيبة، والاهم ان الفيلم في النهاية جاء بردا وسلاما علي روح المبدع العظيم، وعشاق ابداعه، حتي يمكن القول انه كان سيوجه تحية لصانعيه لو كان علي قيد الحياة، فالسيناريو الذي شارك في كتابته المخرج احمد فتحي غانم وعلا عزالدين حمودة وان بدا وكأنه ادخل تعديلات علي النص الاصلي، الا ان الحرص علي احترام القطعة الادبية وصاحبها كان كبيرا واستهدف اضفاء "حداثة" و"عصرية" علي النص الذي نشر لاول مرة في مجلة روزاليوسف عام 1966 وعلي الرغم من هذا يبدو قريب الصلة بشكل مدهش مما يحدث في واقعنا الراهن، حيث العالم الثالث وما يجري في دوله وانظمته القمعية والمستبدة من تغرير بالشعوب، وتحجيم لحرية تداول المعرفة، اذ تنظر حكومات هذه الدول الي المعرفة بوصفها "الخط الاحمر" الذي لا يمكن تجاوزه، والتي تملك وحدها الوسيلة لتوصيلها. فالاستاذ الجامعي د. سالم- محمود حميدة في الفيلم- هو نموذج للكثير من مثقفينا ورموز مفكرينا، ممن بدأوا حياتهم ثوارا ومناضلين وانتهي بهم الامر ذيولا للسلطة او أذنابا للنظام وفيما ينظر اليهم تلاميذهم ومريدوهم بانهم "خافوا" وفرطوا وضلوا الطريق، يتشبث الواحد منهم بالقول انه "اكتشف ذاته" وعثر علي طريقة بعد طول ضلال! لا اعرف ان كان حب الابن لابيه، واعتزازه به كمبدع اصيل وكبير هو الذي انتهي بنا الي هذه النتيجة الساحرة ام انها القيم الاخلافية والمباديء النبيلة التي مازال بيننا من يتحلي بها. في فيلم "تلك الايام" يقدم محمود حميدة واحدا من افضل واهم ادواره بعدما نجح في امتلاك شخصية الاستاذ الجامعي والمفكر والاديب، الذي بدأ حياته مثله في ذلك كثيرون من ابناء هذا الجيل، يساريا، وكما حدث مع فتحي غانم نفسه زج به في المعتقل، ونكل به وعذب، لكن سالم اكتشف ان في الوصولية والانتهازية طريق النجاة وعلي الفور راح يتقرب للنظام حتي صار الناطق بافكاره، والبوق الذي يروج لمخططاته خصوصا ان سالم كغيره من المفكرين والادباء والمثقفين صاحب ارضية واسعة لدي الكثيرين ممن ينظرون اليه بوصفه "المثال" و"القدوة" وعلي رأسهم طلبته في الجامعة وتلميذته "أميرة"- الوجه الجديد ليلي سامي- قبل ان يكتشفوا حجم الخديعة التي قادهم اليها سواء علي المستوي العام في الجامعة من خلال عملية "غسيل المخ" التي يخضعهم لها او علي المستوي الشخصي في علاقته مع التلميذة التي اختارها زوجة له لمجرد ان يستكمل الوجاهة الاجتماعية وراح يمارس عليها ايضا نقائضه وامراضه ويقدمها امام الناس، واهلها كذلك، بوصفها المريضة نفسانيا التي فشلت في التكيف مع حياتها، وكانت عائلتها اول من صدق اكاذيبه بعدما نجح في اختراق هذه العائلة والسيطرة عليها اقتصاديا من خلال توفير الوظائف لافرادها والارتقاء بها ماديا لكن السيناريو يبدو في لحظة ما وكأنه يتعاطف مع الزوجة الشابة علي طول الخط ويغفر لها زلاتها باستمرار بل ويكافئها في نهاية الاحداث بان نجاها من الزوج "المريض" لتعيش حياة جديدة مع الفتي الذي اختارته- احمد الفيشاوي- في مشهد يذكرنا بنهاية فيلم "عودة الابن الضال" عندما اجتمع هشام سليم وماجدة الرومي ليبدءا حياة جديدة، يتطلعان خلالها الي المستقبل، بينما الماضي البائس والشاحب بأمراضه وهمومه في الخلفية، فالفتي "علي النجار"- احمد الفيشاوي- يقتحم البيت الريفي للاستاذ والاديب الذي اختاره كمقر لعزلته بعد انسحاب الاضواء عنه نتيجة هفوة سياسية وفي مشهد لا يمكن تخيله حتي لو تم التمهيد له من قبل بان الفتي ضابط سابق في ادارة مكافحة الارهاب ويصر علي اصطحاب الزوجة الشابة ويخلصها من بين براثن "الدكتاتور" بل ويمنحه السلاح ليقينه انه لا يملك الشجاعة التي تجعله يقتل غريمه، وبالفعل يتخلص "الطاغية" من نفسه، وينطلق العاشقان الي آفاق أرحب حيث الشمس التي بدأت تلوح في الافق! محمود حميدة لم يكن وحده المتألق والمبدع بحق في فيلم "تلك الايام" فالتمثيل بأكمله في افضل حالاته، سواء الوجه الجديد ليلي سامي، التي عُرفت كمخرجة موهوبة للفيلم الروائي القصير "صولو"، واحمد الفيشاوي الذي اتسم اداؤه بالرصانة، والتحكم في كل المراحل التي مرت بها الشخصية، وحتي الفنانة القديرة صفية العمري بدت في صورة جديدة للفنانة التي تحركها خبرتها، وان بدا ان المخرج لجأ في اكثر من مشهد للهروب من التركيز عليها بلقطات قريبة مكبرة، وهو الاسلوب الذي كان نهجا له في الفيلم عندما اعتمد بشكل كبير علي هذه اللقطات المكبرة "الفاضحة" لافكار ونوايا الشخصيات ودعمته في هذا كاميرا احمد عبدالعزيز التي عبرت عن الاجواء المختلفة للفيلم وكذلك موسيقي عبده داغر، التي لم تخرج في الغالب عن "تيمة" موسيقية واحدة راح يكررها طوال الاحداث، لكنها اصابت الهدف، وجاءت كالسهم في مقتل، والحال نفسه في ديكور تامر اسماعيل سواء في شقة الاديب وزوجته او البيت الريفي، فالشقة غلبت عليها الالوان الداكنة التي توحي بمدي الشقاق والاختلاف الذي يسود العلاقة بين الزوجين، والبيت الريفي يعكس مظاهر الثراء الذي تعيشه عائلة الاديب وان لم يفلح الثراء في تخليص البيت من حالة الخواء التي تسيطر عليه وعلي ناسه، اما ملابس ريم العدل فتبدو جزءا من الخطة المحكمة التي وضعها المخرج احمد فتحي غانم لضبط عناصره الفنية وتوظيفه كل عنصر منها ليصب في خدمة رؤيته وعمله الفني، فالملابس التي ترتديها "أميرة" تعكس شخصيتها المتحررة، وحالة اللامبالاة التي تعيشها بينما تؤكد ملابس الاديب والاستاذ د. سالم شخصيته المتزمته، وافكاره الكلاسيكية وفي اكثر من موضع في الفيلم ينجح المخرج في توصيل ما يريده من مغزي ورسالة من دون ان يقع في الثرثرة، فالتمثال الذي بدأ الفيلم والستار يسدل عليه في الاحتفال بفوز الكاتب والاديب بجائزة الدولة يشير الي "تضخم الذات" الذي يميز شخصية د. سالم والظلمة الناتجة عن الاضاءة الشحيحة والمحسوبة في كل مرة يجتمع فيها "سالم" و"أميرة" هي ايحاء بالظلمة التي تظلل حياتهما الزوجية وطوال الوقت لا يستطيع المشاهد لفيلم "تلك الايام" ان يتغافل عن الدور الكبير الذي يلعبه الفنان محمد بكير في تلوين الفيلم بلمسة مفرطة في العذوبة والموهبة العالية، فالحقبة الزمنية للمشهد يدلك عليها اللون وحده، كما في مشهد اقتحام الارهابيين للقطار المتجه الي الصعيد، وكذلك لقطات مطاردة الضابط- الفيشاوي- للارهابيين في القري والنجوع، التي تعمد المخرج ان تبدو فقيرة ومنهكة اقتصاديا، وكأنه يبرر كونها بؤرة للتطرف والارهاب لكن السيناريو بدا متعجلا كثيرا عندما مر مرور الكرام علي ازمة الضابط السابق في ادارة مكافحة الارهاب علي الرغم من كونها المرة الاولي في السينما المصرية التي تقترب فيها من هذه الزاوية التي يبدو البطل فيها وكأنه اصيب بعقدة من "حربه الصليبية" علي الارهاب، وانه لم يختر الجانب الصائب طوال الوقت بل كان جاهلا ومغررا به وهو ما تؤكده الادعية الدينية التي كان يلجأ اليها الضابط بعد اعتزاله الذي لم يبرره السيناريو، علي الرغم من اهمية كشف الدوافع التي ادت اليه. علي عكس افلام كثيرة يغرق اصحابها في تبني رؤية فكرية، وموقف سياسي، علي حساب اللغة السينمائية او العكس، نجح المخرج احمد فتحي غانم في فيلم "تلك الايام" في الانطلاق من رؤية سياسية واضحة تناهض القمع والاستبداد والتعدي علي الحريات الشخصية بجميع اشكالها وانواعها في الوقت الذي اتسم فيه الفيلم برؤية جمالية ونزعة فنية بلغت الذروة من السحر والشجن والعذوبة وابدع المخرج في تقديم مشهد اللقاء الذي نزل فيه د. سالم ضيفا علي قناة "الجزيرة" بشكل مبتكر ومشوق بدرجة كبيرة ولعب المونتاج المتوازي بين اللقاء وضبط الزوجة علي كوبري قصر النيل ليزيد المشهد اثارة خصوصا انه اكد علي معني مهم مؤداه ان الاثارة لا تكمن فقط في "الاكشن" او المعارك بل يمكنها ان تتجلي في مشهد لا تغادر فيه الكاميرا "طاولة" مباحثات او برنامج تليفزيوني كما في الفيلم او يتبادل فيه الابطال الكلمات اذ من الممكن ببساطة ان تتحول الكلمات الي لكمات.. وهذا ما نجح الفيلم في توصيله بسبب براعة المخرج والسيناريو مما يؤكد ان "تلك الايام" كان رحلة بصرية وفكرية ممتعة.