قبل منتصف الشهر الماضي ألقي الشيخ الدكتور محمد العريفي الداعية السعودي المعروف خطبة الجمعة في أحد مساجد الرياض خصصها بالكامل للحديث عن مصر.. كانت عبارة عن قصيدة حب ووفاء بالبلدة الطيبة وأم البلاد ومهبط الأنبياء ومحط رحال الصحابة والتابعين والعلماء والشعراء ودور شعبها عبر التاريخ العربي والإسلامي، كلمات الشيخ وتعبيراته كانت صادقة ونابعة من القلب، وسرعان ما انتشرت الخطبة علي اليوتيوب، والشيخ لمن لايعرفه لايحتاج ولا يسعي للشهرة فهو صاحب حضور واسع في المحافل والفضائيات الدينية منذ سنوات طويلة وحديثا علي شبكات التواصل الاجتماعي، وله جولاته حول العالم في مجال الدعوة وأسلم علي يديه الآلاف من قارات العالم ، وقد كشف عن شريط له منذ أربع سنوات ينتقد بعنف الرئيس السابق مبارك لقيامه بتشديد الحصار علي غزة خلال الحرب عليها نهاية 8002 بل والدعاء عليه بالهلاك جزاء هذا الجرم، لكن خطبته الأولي بأحد مساجد الرياض ثم حضوره لمصر ودروسه الدينية ولقاءاته الإعلامية ثم خطبته بأول مسجد أنشيء في مصر (عمرو بن العاص رضي الله عنه) أحدث نوعا من الدهشة المحببة ولامس قلوب عموم المصريين بينما لم يرها البعض ممن لايجوبون هذه المنطقة الدافئة كذلك!! الدهشة أن خطيبا وأستاذ جامعة وداعية من أرض الحرمين الشريفين ويعد من جيل الوسط من شيوخ وعلماء المملكة (34 عاما) تفيض كلماته بكل هذا الحب تجاه مصر وأهلها ، صحيح أننا رأينا علي اليوتيوب خطبة خلال أحداث ثورة يناير من الحرم النبوي لخطيب المسجد وهو يبكي داعيا الله أن تكون مصر التي ذكرها سبحانه وتعالي وكرمها في قرآنه الذي يتلوه مئات الملايين آناء الليل وأطراف النهار في أمانه وضمانه وأن يحفظ أهلها من كل شر ، ونعلم العمق التاريخي للعلاقات بين البلدين التي ربما مرت في بعض الأوقات بسحابات صيف دامت بعض الوقت ثم انقشعت، مع حب المصريين لبلد الحرمين الشريفين وزياراتهم التي لا تنقطع طوال العام سواء للحج أو العمرة أو العمل، فهناك أكثر من مليون مصري يعملون في كافة المجالات منذ سنوات طويلة دون مشاكل غالبا ما تنحصر في مخالفة القانون ، كما أن مصر مقصد هام للسياحة السعودية والآلاف من الأشقاء السعوديين يقيمون بمصر ويدرس أبناؤهم بالمدارس والجامعات وهناك صلات مصاهرة كثيرة مع عائلات مصرية. لم يأت الشيخ ليعلم المصريين حب بلدهم فهو متجذر في عقولهم وأرواحهم ولن يزرعه أحد داخلهم ، لكن ماحدث لهم علي مدي ستة عقود زمنية أحدث حالة غير مسبوقة من اليأس والإحباط وإخماد روح الانتماء، مما دفع الكثيرين للهجرة لأسباب سياسية واقتصادية، ومن لم يتمكن من ذلك فقد رضي بالبقاء تحت ظروف قاسية من القهر والاستبداد والفقر والفساد والانهيار في كافة المجالات ، مافعله الشيخ أنه أرسل إشارة رقيقة مست شغاف القلوب أن مصر هي البلدة الطيبة وأم البلاد التي أمر الله أن يدخلها الناس بمشيئته آمنين، ولأرضها قدسية ومكانة في أديان ورسالات السماء وفيها حط الأنبياء رحالهم وكذلك الصالحون والعلماء والمفكرون والشعراء ، فتح الشيخ ديوان التاريخ ليسرد صفحات طويلة ناصعة البياض لرجال ونساء مصر وأدوارهم الخالدة ليس لبلدهم فقط ولكن للعالم بأسره ، وقع كلمات الشيخ بين المصريين يشهد عليه انتشار الفيديو علي اليوتيوب بسرعة مذهلة وإقبال فاق الحدود واستقباله في مصر رسميا وشعبيا كان تعبيرا عن رد التحية بأحسن منها أو مثلها ، الجموع التي أدت الصلاة في مسجد عمرو بن العاص وخطب فيهم الشيخ عبرت عن صادق الحب والامتنان للمشاعر الصادقة التي خرجت من القلب فوصلت لكل القلوب. وتتابعت رسائل الحب فحضر لمصر داعية آخر هو الشيخ عائض القرني الذي أنشد من خلال زياراته السابقة لمصر العديد من القصائد في حب مصر، وليعلن الجميع أنه الوقت الذي علي الجميع أن يؤازروا البلد الأمين لا بالكلمات بل بالأفعال، فالبلد الذي كرمه الله لايهان لأنه قلعة الإسلام التي لايجب أن تسقط ولن يحدث بمشيئته ، لم يقل الشيخ العريفي ولاغيره من الشيوخ كما ادعي البعض أرسلوا معونات لمصر وإنما دعا رجال الأعمال والمستثمرين العرب والمسلمين لتوجيه أعمالهم لمصر من أجل النفع المشترك وألا يدعوا أموالهم في بنوك الغرب فريسة للضياع أو لخدمة اقتصادات بلدانه الغنية، بل إن الشيخ استدعي من صفحات التاريخ البعيد استغاثة ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة والمجاعة لعمرو بن العاص حاكم مصر بعد الفتح، حيث قال (واغوثاه) فكان رد الأخير " والله لأرسلن لك قافلة من الطعام أولها عندك في المدينة وآخرها عندي في مصر".. وظلت مصر علي هذا الدور طوال تاريخها القديم والحديث ، لم يتدخل الرجل في الصراع السياسي في مصر وإنما دعا لوحدة الصف ونبذ الخلافات والالتفاف والتضامن والوحدة بين كل أطياف الشعب والتصدي لكل المؤامرات التي تستهدفنا جميعا. وقبل أن نفتح قلوبنا للمحبين القادمين من دول الجوار من الأشقاء ومن مشارق الأرض ومغاربها لابد أن نفعل بالمثل فيما بيننا، فلا يمكن أن نظل في تلك الحالة من الخلاف والصراع ، ولابد أن ينحي كل منا مصالحه الشخصية والحزبية جانبا لنبني الوطن الذي لن يقوم إلا علي أكتاف أبنائه وسواعدهم وعقولهم، ويجب أن نسد كل مسام الفساد التي توغلت في الجسد المصري منذ زمن بعيد ، وأن نوقف آلة الفتن المتحركة في فضائنا ليل نهار عن الدوران المسماة إعلاما، وأن يراجع من يعملون فيها أنفسهم وضمائرهم، ولننطلق جميعا للعمل.. ساعتها سنثبت أننا نحب هذا البلد ولاننكر علي الآخرين حبهم له!