قال الشاعر العربي القديم الحكيم »وأظنه المتنبي« هذا البيت الفلسفي الفذ الذي أستحضره للضرورة الإنسانية وللظروف الراهنة الحالكة: وذو العقلِ يَشقَي في النَّعيمِ بعقله! وأخو الجهالةِ في الشَّقاوةِ يَنعُمُ! والمعني المباشر لهذه الأبيات الشعرية أن صاحب العقل الواعي الذي يلم ذهنيا بكل جوارح وآثام الزمن في رأسه المتعب، هو في شقاء دائم بسبب هذا الوعي، وإن بدت حالته الفكرية المنفتحة علي الدنيا هي من دواعي النعيم المعرفي، علي عكس الشخص الجاهل الذي يري الشاعر أنه ينعم بجهله لأنه لايعرف حقائق الأمور، وبالتالي فهو معزول عن الهموم والكروب والغم ووجع الدماغ! وفي ظل المحن المحلية والعالمية السائدة علي كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكارثية مثل نكبة حادث قطار أسيوط في مصرنا المنكوبة حيث أزهقت أرواح بريئة لأكثر من 05 طفلا، إلي جانب سقوط جرحي وشهداء في التوترات السياسية الأخيرة، وجدت نفسي أمتدح البيت الشعري الثاني، وألوذ بالجهل عمدا مع سبق الإصرار والترصد، حيث أصابني الوعي وكثرة متابعة الأحداث بنوبة وحشية من الاكتئاب الأسود الذي نصحني الأطباء بمراوضته حتي لا يعيد السيطرة علي حياتي فيصيبني بالشلل النفسي، ويعزلني عن الحياة وعن التفاعل نهائيا مع أبسط الأمور نتيجة الدخول القسري في دوامته الرهيبة! الأطفال يحاصرونني.. لا أستطيع أن أطرد مشهد الوجوه الصغيرة الحنونة لشهداء قطار أسيوط.. يداهمونني في الصحو والمنام داخل أكفانهم البيضاء المرهبة.. أبحث عن أطفال آخرين في مشهد مأساوي آخر فأرتطم بأطفال اللاجئين السوريين داخل مخيم الزعتري مع ذويهم.. يتحايلون علي البؤس والفقر والتشرد والشقاء بالتكيف الإجباري مع الظروف المعيشية البائسة وأفدحها زحف البرد القارس والأمطار التي تجتاح الخيام البسيطة إلي جانب المعونات الخيرية التي تكفيهم بالكاد فهم يقتسمون ما تجود به الدول المانحة والمنظمات المعنية مع أبناء غزة المحاصرة، والعالم كله يعيش أزمة اقتصادية طاحنة تؤثر بالسلب علي ما يحصلون عليه من معونات، وللعلم فقد نزح خارج سوريا مايقرب من 007 ألف مواطن مابين فقراء لجأوا للمخيمات أو مقتدرين فروا إلي الدول العربية (وعدد كبير منهم في مصر). أستمع إلي لوعة طفلة سورية لاجئة تقول: »عايزين نعيش في بيوت مو خيام ينزل فيها علينا المطر... عايزين نرجع مدارسنا.. هون في المخيم مدرسة بدائية وماعندنا كتب... إن شاء الله يارب نرجع سوريا عن قريب«.. هل تختلف أمنيات هذه الطفلة السورية البائسة عن مطالب طفلة مصرية فقيرة تعيش في ظروف أسوأ من ظروف اللاجئين داخل عشش من الصفيح الصدئ، وتشرب مع أهلها ماء آسنا مختلطا بالمجاري، ولاتذهب أصلا لأي مدرسة؟! أما الأمطار فلمصر كلها نصيب فيما تحدثه من ارتباك وليس فقط سكان العشوائيات والعشش! فالحكومات المتعاقبة تترك مسألة غزو الأمطار لرحمة ربنا.. وبالعودة إلي الكوابيس الناجمة عن المعرفة والراحة المترتبة علي الجهل أقول بأن كل شيء مهما بلغت تفاهته حولنا يدعو إلي التعاسة من أول الهواء الذي يكتم الأنفاس بالتلوث الجسيم، إلي تلوث النفوس التي لا مفر من مواجهتها كجزء من المكون الإنساني في جانبه المنحط!.. ففي ألوان الحياة تقهقر اللون الأبيض بشدة لصالح اللونين الأسود والرمادي، فإذا كان نعيم الجهل يكافئ صاحبه بعدم الخوض في أعماق الأمور الجسيمة فإن الشقاء المعرفي يجبرنا علي ترويض الشر لأن سحقه أمر إلهي فقط.. والله المجير والخبير والمستعان علي كل بلاء! ألوذ بالسعادة المؤقتة فأتابع بعض برامج مسابقات الغناء المنهمرة كالسيل علي الكثير من الفضائيات، لعلني أمتلئ ببعض وهج الفن الجميل مع شيوع وذيوع ونجاح بعض الأصوات الجميلة وانحسار الأصوات محدودة الموهبة.. هذه المتابعة من ناحيتي هي نوع من السلوك الهروبي المشروع من قتامة الواقع حيث الفن يسمو فوق جسامة أحداثه ولو لوقت قليل لأن الموسيقي بمصاحبة الشعر تجمع الحسنيين معا فوق حنجرة عذبة تحلق بالمستمع.. إلي آفاق شفيفة ورهيفة تتجاوز فقر النفوس المعتمة بالتشاؤم المسبب، فكل ماحولنا ثقيل علي الأحشاء والقلوب، وقدرتنا علي تغيير المرارة الواقعية محدود وضيق، فكان لابد من هدهدة النفس كي تتمكن بالقوت الفني المدهش من التأقلم النسبي مع الحياة بكل ما تحتويه الآن من مرارات وعذابات وشقاء لا نهائي، والفن هنا هو الشافي والدواء الذي يعيننا علي التحمل والمثابرة والاستمرار في منازلة مصاعب الدنيا بالطاقة الإيجابية الكامنة فيه، وأعني هنا بالطبع الفن والغناء الأصيل وليس الذين قال فيهم الشاعر العبقري الراحل بيرم التونسي: يااهل المغني دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله داحنا شبعنا كلام مالو معني ياليل وياعين وياآه! فالذين سكب عليهم بيرم الجميل غضبه ليسوا بالطبع من أستمتع مع الجمهور الكبير بوصولهم إلي نهائيات المسابقات، بل الدخلاء الذين أدمنوا الاستماع إلي أنفسهم يصيحون داخل المراحيض والغرف المغلقة، فرفضتهم لجان التحكيم في مستهل التصفيات الأولي لهذه البرامج الفنية الاحترافية التي تتبناها شركات عالمية كبري. »إن حالة التعاون والتضامن الموجودة في ميدان التحرير يجب دعمها ومساندتها.. يجب أن نخرج من التحرير جماعات تساعد في محو الأمية ورعاية الطفولة والمشاركة في العمل العام«.. من أقوال د.أهداف سويف الكاتبة الروائية والناشطة السياسية عقب ثورة 52يناير 1102، وقد تاهت أمانيها في خضم الأحداث.