حزينة هي المدينة بأحجارها القديمة الصماء، التي كانت تنطق يوما بالحياة.. وأطلال معابدها التي شهدت حضارة يدين بها العالم.. حزينة هي المدينة بعد أن بدت خاوية علي عروشها حيث هجرها السائحون الذين كانوا يبعثون الحياة في آثارها والحياة كلها.. حزينة هي المدينة التي تعتمد في اقتصادها بالكامل علي السياحة.. دموع المدينة فاض بها النهر.. حيث الصورة (مبكية) و(محزنة) إلي أقصي درجة.. أصحاب (الحناطير) بلا عمل.. والمراكب تصطف ساكنة علي ضفاف النهر الخالد، والفنادق خالية تصل خسارة أي واحد منها مابين مئتين إلي خمسمائة ألف جنيه في الشهر.. باختصار الحالة في الأقصر شديدة الصعوبة فبعد أن كانت (عروسا) فرحة.. باتت (أرملة) حزينة.. وإن لم تفقد جمالها. فلا يوجد بيت في الأقصر لايعمل فيه شخص علي الأقل في السياحة (يرتزق) منها.. ويحصل منها علي (لقمة العيش). لكن من حسن حظ المدينة أن لها محافظا مثقفا.. واعيا يدرك همومها.. يعمل علي التخفيف عنها.. يبحث عن حلول.. يقدم يد المساعدة بقدر المستطاع.. متفائلا.. متفانيا.. واثقا أن (الغمة) لابد أن تزول. محافظ الأقصر السفير (د. عزت سعد) رجل بسيط متواضع نموذج مشرف لكل المحافظين لما يجب أن يكونوا عليه.. ولعلها المرة الأولي طوال عملي الصحفي أن أجد محافظا حريصا علي التواجد بين الإعلاميين والفنانين في المهرجان والندوات يستمع كباقي الحضور دون السعي إلي المنصة. إن دعم محافظ الأقصر للمهرجان لشيء يستحق التحية والتقدير بالفعل.. وهو له أحلامه في أن تستعيد الأقصر مكانتها وأن يتدفق السياح عليها من جديد.. لذا كانت فكرة إنشاء القطار السريع من (الغردقة) للأقصر للاستفادة من السياحة الشاطئية التي تمثل 58٪ وقد تلقي عروضا من الهند وفرنسا بنظام (B.O.T) وعشمنا أن يري هذا المشروع النور قريبا. في الأقصر الحالة واقفة.. أصحاب الحناطير عددهم الحقيقي 053 لكن بعد الثورة وصلوا إلي (0021) لذلك كان لابد من تقنين أوضاعهم.. وتوفيق أوضاع البعض الآخر.. المحافظة مع مستشفي (بروك) تقدم الطعام للخيول.. وكل شيء معفي من أي رسوم. (يارب افرجها).. دعاء تسمعه من كل من تقابله في الأقصر.. منذ أن تخطو خطواتك الأولي فيها في المطار.. وحتي تغادرها حزينا علي حالها. ❊❊❊ وسط هذا الأسي كانت هناك لحظات نور وأمل متمثلة في مهرجان السينما المصرية والأوروبية برئاسة ماجدة واصف حيث استطاعت بدأب شديد أن تحقق حلما راودها وتسعي إلي تحقيقه منذ ثلاث سنوات. في هذه الدورة التي حملت الكثير من ملامح النجاح وسط عقبات مالية صادفتها تكاتف الجميع معا ليخرج المهرجان في أفضل صورة.. فكان حفلا الافتتاح والختام يحملان عبق الماضي وروعة الحاضر في بارقة أمل.. وإن تميزا بالبساطة. وقد كان اختياراً شديد الأهمية أن يكون الرئيس الشرفي للمهرجان لا أدري في هذه الدورة فقط أم سيستمر في باقي الدورات اختيار الأديب الكبير بهاء طاهر ابن الأقصر الذي أصبح عالميا وترجمت رواياته إلي العديد من اللغات. إن كاتبنا الكبير لم ينس أبدا جذوره وبداياته ليس في أعماله فقط وانتمائه للأقصر.. لكنه أهدي قطعة أرض مميزة يملكها وورثها عن والده ليقام عليها قصر ثقافة ليكون إشعاعا ونورا ثقافيا وفنيا لأبناء هذه المدينة العزيزة علي القلب. تأخذنا الحياة بعيدا عن أناس وأشخاص نحبهم ونقدرهم كثيرا.. وتكون اللقاءات من خلال المهرجانات والمحافل الثقافية والفنية فرصة للقاء والتواصل.. وكم كانت سعادتي بلقاء أصدقاء كرام بعدت بنا الأيام مثل الصديقة العزيزة الغالية (كريمة كمال) التي تعد نموذجا رائعا ليس للكاتبة والصحفية المصرية بما تملكه من شجاعة في التعبير عن الرأي.. لكن باعتبارها نموذجا رائعا للمرأة المصرية.. وهي بالمناسبة تستعد للسفر إلي السويد.. حيث ستلقي أكثر من محاضرة في أكثر من مدينة عن بورتريه للمرأة في الثورة.. وبهذه المناسبة سوف يصدر كتاب موسع يضم عددا من الكاتبات من مصر والسويد عن صور إيجابية للنساء. كريمة كانت بصحبة زوجها المخرج الرائع داود عبدالسيد واحد من المؤسسين لمؤسسة (نون) الثقافية التي تقيم المهرجان.. إن داود قارئ جيد لواقع هذا البلد.. جزء من (نسيجه) وأحد الذين نفخر ونفتخر بهم في مجال الإبداع وعلي المستوي الإنساني. ولعلي خصصتهما بالذكر لأني لم أرهما منذ فترة طويلة.. أيضا القدير (د. محمد القليوبي) رئيس المؤسسة وأحد الجنود البواسل لكي يري هذا المهرجان النور.. ومعه أ. وديد شكري المدير التنفيذي للمهرجان الذي نتيجة للضغط العصبي أصيب بنزيف في العين (شفاه الله) اضطر إلي النزول إلي القاهرة والعودة للأقصر من جديد. كذلك الإعلامية الكبيرة (سلمي الشماع) وفي الحديث والجلوس معها متعة شديدة بما لديها من أسرار وحكايات عن العديد من الشخصيات العالمية التي التقت بهم. وآخرون سعدت بلقائهم والتواصل معهم وهذه واحدة من أهم فوائد المهرجانات. في هذه الدورة تم الاحتفاء بالسينما البريطانية.. وتكريم واحد من منتجيها (بول وبستر) وهو منتج فيلم الافتتاح (صيد السلمون في اليمن) للمخرج (لاس هالستروم) وبطولة (عمرو واكد) الذي حرص علي حضور ندوة حرية الإبداع والتعبير التي أدارها ببراعة الكاتب والمفكر الكبير سعد هجرس وشارك فيها كل من ليلي علوي .. إلهام شاهين.. خالد أبو النجا.. والكاتب الكبير (بهاء طاهر). من بين ضيوف المهرجان كان لقائي بالمخرج الكبير (روبرت جديجيان) ذي الأصول الأرمنية.. وزوجته الفنانة القديرة (أريان اسكاريد) ولعل أهم ما يميز أعمال (جيديجيان) أنه يعكس بصدق شديد صورة مدينة مارسيليا وهي مدينة شديدة الخصوصية تعج بالعمال والمهاجرين خاصة العرب. ومن يتابع أعمال (جيديجيان) يدرك أنه يتعاون بإخلاص شديد مع فريق عمل من الممثلين والتقنيين تقريبا منذ ثلاثين عاما.. لذا فأعماله لاتخرج عن كونها تعاونا (حميميا) يجمع بين أهل وأصدقاء ورفقة عمر يكللها النجاح.. بالتأكيد كان للألم والفشل فيها مكان في البداية.. فلمدة عشر سنوات في بداية مشواره الفني لم يستطع أن يذوق طعم النجاح.. لكن إخلاص من يحيطون به وإيمانهم الشديد به وعلي رأسهم زوجته (أريان).. جعله يواصل مشواره.. ليصل اليوم لهذه المكانة العالية.. حاصدا أعلي درجات النجاح.. بعد أن نجحت أفلامه في التعبير عن واقع مدينة.. توحدت مشاكلها الإنسانية مع العالم.. فكانت ترجمة صادقة لعلاقات اجتماعية ورؤي إنسانية مشتركة. المهرجان عرض لروبرت جيديجيان آخر أفلامه (رحلة لجبل كليمنجارو) وعودة للحوار مع جيديجيان فإنه يقول إنه يشعر بسعادة شديدة لزيارته للأقصر هذه المدينة التاريخية.. وإنه نادم علي أنه لم يزر مصر من قبل ويأمل أن يعود مرة أخري لزيارة القاهرة والإسكندرية وأسوان. وهو يقول إن ابنته أمضت شهرا في ميدان التحرير (يوليو) الماضي.. وإنه لم يكن يشعر بالقلق عليها لأنه يعرف ويدرك جيدا قيمة الشعب المصري.. وإنه شجع ابنته علي الحضور لتتعرف علي الثورة المصرية عن قرب تلك الثورة التي أحدثت زلزالا في العالم أجمع مع ثورات الربيع العربي.. وهذا شيء يجعلني أشعر بالفخر بابنتي. يعترف جيديجيان أنه أحب العمل بالفن من خلال حبه لزوجته التي كان لها العديد من الميول الفنية عندما التقيا في الجامعة لدراسة علم الاجتماع وأن هذا الحب الكبير قاده لحب الفن والعمل فيه.. ولأنه كان عضوا بارزا ومازال في الحزب الشيوعي.. فإن للفقراء والبسطاء مكانة كبيرة في أفلامه فهم الأبطال الحقيقيون.. مشاكلهم الحياتية ومعيشتهم اليومية.. والمعروف أن جيديجيان ينتمي لأسرة بسيطة وأن والده كان (عاملا) وله شقيقة واحدة. وبقدر ما يدافع جيديجيان عن العمال فهو يدافع أيضا في كل أفلامه عن المهاجرين وحقوقهم وتحسين أوضاعهم.. وبالمناسبة فمع مجيء (فرانسوا هولاند) يعتقد أن أهم قانون سنه هو حق كل من كان يعيش في فرنسا وبدون أوراق أن يحصل علي العلاج في حالة المرض دون أي مطالبات مالية. أما زوجته (أريان اسكاريد) فإنها واحدة من أبرز نجوم السينما والمسرح ولها تجارب عديدة في كتابة السيناريو وهي رغم مهامها الكثيرة إلا أنها تنتمي لجماعة »صمود النساء« التي تدافع عن حرية المرأة والحصول علي حقوقها.. ولعل أهم حقوق المرأة في فرنسا سعيها للمساواة بالرجل وحقها في الحصول علي نفس الأجر أو الراتب.. والترقي في الوظائف مثل الرجل تماما. وأريان سعيدة بحضورها للأقصر فهي تشعر أنها تعيش في قلب التاريخ.. وهي رغم حياتها في باريس إلا أنها لم تشعر يوما أنها باريسية.. بل إنها تنتمي لمدينة مارسيليا التي تتمتع بطبيعة خاصة.. وهي مثل زوجها تماما.. كانت تشعر بفخر وسعادة كبيرة بوجود ابنتها في ميدان التحرير لمدة شهر.. لأنها كانت شاهدة علي حركة التاريخ وما يحدث من تغيير عن قرب.. ورغم أنها فرنسية إلا أنها تشعر بالسعادة عندما تشارك في أعمال زوجها التي تبحث عن الهوية والثقافة والجذور الأرمنية.. فمن منا بلا جذور ومن منا بلا انتماء لثقافة حقيقية فإنه يعتبر فقاقيع تطير في الهواء سرعان ما تختفي.