شهد المجتمع المصري خلال الأشهر القليلة الماضية أي منذ اندلاع ثورة يناير حوارات ساخنة ومناقشات مكثفة حول مستقبل الأوضاع في مصر والمخاطر والتحديات التي تواجهها البلاد في الوقت الراهن وصلت في بعض الأحيان إلي حد المهاترات وتبادل الاتهامات بالعمالة والتخوين والتحقير من الآراء المخالفة. وقد لعب الإعلام المصري والعربي خاصة البرامج الحوارية »توك شو« التي امتلأت بها القنوات الفضائية سواء المصرية أو العربية دورا مؤثرا وفاعلا ساعد في تأجيج هذه الحوارات بهدف الإثارة لجذب مزيد من المشاهدين وبالطبع بزيادة حصيلة دخل هذه القنوات من الإعلانات التي يتم إذاعتها بكثافة خلال هذه البرامج كل هذا بدعوي حرية الإعلام وحماية الرأي والرأي الآخر غاضين النظر عما إذا كان هذا الصراع المحموم والمنافسة القاتلة يصب في الصالح العام ومصلحة الوطن العليا أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا أم لا. والحقيقة أن الإعلام بكل صوره المرئي والمقروء والمسموع والذي أصبح يلعب دورا هاما في كل مناحي الحياة عليه أيضا دور كبير ومسئوليات جسام أخلاقية ومهنية ووطنية خاصة فيما يتعلق بتوعية المواطنين وتثقيفهم بحقيقة وطبيعة المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد بعد الثورة والظروف الصعبة التي نعيشها وضرورة بذل كافة الجهود والتضحيات حتي نتمكن من تخطي هذه المرحلة والانطلاق بقوة وثقة نحو بناء مستقبل أفضل لهذا الشعب العريق الذي عاني طويلا وتحمل الكثير خلال العقود الستة الماضية.. كما أنه ينبغي ألا ينساق الإعلام خاصة قياداته من الكتاب والمفكرين والمحللين وكذلك مقدمي ومقدمات برامج »التوك شو« وراء أية توجهات أو تيارات سياسية أو أيدلوجية تسعي إلي خدمة مفاهيمها وأهدافها من أجل السيطرة علي مقاليد الحكم في البلاد خلال المرحلة القادمة انطلاقا من وثيقة الشرف الصحفي التي أقرتها نقابة الصحفيين. إن الشعب الذي عاني طوال الستين عاما الماضية من نظام الحكم الشمولي وغابت عنه مفاهيم الحرية والديمقراطية في أشد الحاجة الآن إلي الجهود المخلصة والفكر المستنير والأمين من أبنائه الأوفياء خاصة أصحاب الفكر والرأي من الصحفيين ورجال الإعلام لكي يوضحوا له ويبصروه بطبيعة المرحلة التي نحن مقدمون عليها ومتطلباتها للارتقاء بهذا الوطن. هناك علي سبيل المثال »وللأسف الشديد« هجمة شرسة من بعض الصحفيين والكتاب ونجوم ونجمات البرامج الحوارية »توك شو« علي الحكومة الحالية والمجلس العسكري »سواء بقصد أو بدون قصد« يتهمونهما بالتقاعس والتباطؤ وعدم الجدية في اتخاذ القرارات وإنجاز الأمور ولا يملون من ترديد مقولتهم أن حكومة د.شرف حكومة ضعيفة ومهزوزة بل وعاجزة عن حل المشكلات التي تواجهها البلاد في الوقت الراهن وما أكثرها، كما يتهمونها أنها لا توضح للشعب أسباب الظروف الصعبة التي تواجهها كافة قطاعات الدولة الاقتصادية والزراعية والصناعية والخدمية بل ويطالبون المجلس العسكري بضرورة الإسراع في وضع خطة زمنية لنقل السلطة إلي حكم مدني.. وهنا أتساءل ويتساءل معي كل المتابعين والمراقبين بصدق وأمانة لمجريات الأمور مجردين من الهوي والميول الشخصية أو الحزبية أو الفكرية أليس هذا هو صلب دور الإعلام والإعلاميين إذا ما خلصت النوايا خاصة مقدمي ومقدمات برامج التوك شو.. أليس هذا من أهم واجبات كبار الصحفيين والكتاب الذين يعلمون جيدا أكثر من غيرهم حقيقة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد حاليا خاصة في ظل مناخ الحرية وتدفق المعلومات الذي تنعم به البلاد الآن وكذلك المخاطر بل الكوارث التي يمكن أن تهوي إليها البلاد إذا ما استمرت حالة الانفلات الأمني وعدم الاستقرار وأعمال البلطجة وترويع المواطنين. بالفعل ربما تكون حكومة د.شرف حكومة ضعيفة مغلولة اليدين غير قادرة علي العمل واتخاذ قرارات فاعلة.. غير أن الحقيقة المؤكدة والتي يجب أن يعلمها الجميع خاصة أولئك الناقدين والمعارضين لحكومة د.شرف أنه لا د. شرف ولا أي رئيس حكومة آخر حتي ولو كانت المرأة الحديدية مرجريت تاتشر أو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يمكن أن يحقق أي نجاح أو تقدم في ظل هذه الظروف الصعبة للغاية بل المأساوية التي تمر بها مصر الآن من انفلات أمني وعدم استقرار وأعمال بلطجة ومظاهرات وإضرابات واعتصامات فئوية من مختلف قطاعات المجتمع. إذ هل يعقل أن يضرب المدرسون وهم المسئولون عن تعليم وتثقيف وتوعية شبابنا، عدة المستقبل وأمل الأمة والأطباء الذين أقسموا القسم علي تقديم الرعاية الصحية والعون الطبي للمحتاجين في كل الظروف والأوقات، وكذلك أمناء الشرطة حماة القانون والقائمون علي تنفيذه والساهرون علي أمن الوطن والمواطن.. ثم هل يعقل أن يحدث هذا الصراع المؤسف بين جناحي العدالة »القضاه والمحامون« فتغلق المحاكم أبوابها ويعلق القضاة أعمالهم بغض النظر عما يمثله ذلك من أضرار بالغة بمصالح المواطنين بالإضافة إلي إضرابات عمال الغزل والنسيج وهيئة النقل العام وشركة مصر للطيران.. ناهيك عن قيام بعض المواطنين بقطع الطرق الرئيسية والذي يمثل خطورة بالغة علي وحدة وسلامة هذا الوطن تصل إلي حد »الخيانة العظمي« للوطن وتعاقبه الشريعة الإسلامية بحد الحرابة وهو ما يؤدي إلي تدهور الأوضاع الاقتصادية وانخفاض رصيد البلاد من النقد الأجنبي بصورة مخيفة، نعم إننا نقدر الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يعاني منها كل هؤلاء المواطنين وغيرهم.. غير أنه ينبغي علي كل وسائل الإعلام المصري عام وخاص والإعلاميين كبارهم وشبابهم أن يشرحوا ويوضحوا للناس طبيعة الظروف التي نمر بها الآن بعد الثورة وأنها مرحلة صعبة تتطلب منا جميعا إنكار الذات وبذل المزيد من العرق والجهد والعمل المخلص الدؤوب حتي نتخطي بنجاح ونقيم الدولة المدنية الحديثة باقتصادها القومي وقدراتها الفائقة التي ستحقق الرخاء والأمان والاستقرار والعدالة الاجتماعية لنا جميعا. لقد شاءت الظروف أن أعيش في ألمانيا في بداية الخمسينات وأتعايش مع الشعب الألماني الذي خرج من الحرب العالمية الثانية محطما نفسيا واقتصاديا.. غير أن هذا الشعب بجهد وإخلاص أبنائه رجالا ونساء وشبابا وبرقي فكر قادته ومثقفيه وبالإرادة الصلبة والإدارة الحكيمة المتطورة تمكن من قهر المستحيل والتغلب علي الظروف الصعبة التي مر بها بعد الحرب وما خلفته من دمار ومضي بعزم ويقين وإنكار للذات يبني بلده علي أفضل ما يكون حتي أصبحت ألمانيا في مقدمة دول العالم سياسيا واقتصاديا وعلميا. ولقد كثر الحديث عن الأيادي الخفية والقوي الداخلية والخارجية التي تعبث بأمن واستقرار هذا البلد وأنها وراء كل ما تشهده البلاد من انفلات أمني وعدم استقرار وأعمال بلطجة وننسي أن عدم الوعي وتدني الإحساس بالمسئولية القومية وبالشعور الوطني وسعي كل جماعة أو فئة وراء مصالحها الخاصة هو السبب الحقيقي وراء كل هذا الهوان والتشرذم الذي نعيشه الآن. وبهذه المناسبة فإنني أنتهز هذه الفرصة لتهنئة الزميل ممدوح الولي نقيب الصحفيين الجديد وأعضاء مجلس النقابة بنجاحهم متمنيا لهم دوام النجاح والتوفيق في مهمتهم لكي يرفعوا من شأن نقابة الفكر والرأي ويرتقوا بمهنة الصحافة لما فيه خير الوطن والمواطنين.