حكم محكمة القضاء الإداري الذي صدر الأسبوع الماضي وقضي بفسخ عقود بيع ثلاث شركات من كبريات شركات القطاع العام سابقا وهي طنطا للكتان والمراجل البخارية وشبين الكوم للغزل والنسيج أثار ردود فعل واسعة النطاق داخل مصر وخارجها كما أحدث حالة من البلبلة والقلق الشديدين في قطاعي الصناعة والاقتصاد وخاصة في أروقة شركات قطاع الأعمال العام والقطاع المصرفي وكذا داخل سوق المال والبورصة ودارت التكهنات حول ردود أفعال المستثمرين الأجانب بصورة عامة وأصحاب الشركات الثلاث بصورة خاصة وعما يمكن أن يتخذوه من قرارات لحماية مصالحهم وفي مقدمتها بالطبع اللجوء »للتحكيم الدولي« وهو مايمكن أن يحمل ميزانية الدولة أعباء مالية جسيمة. هناك بالطبع من يؤيدون قرار المحكمة الإدارية ويعتبرونه قرارا صائبا صحح أوضاعا غير سليمة وأعاد للدولة وللشعب حقوقا اغتصبت بأساليب أقل مايقال عنها أنها فاسدة.. وهناك فريق آخر يخشي علي المناخ العام للاستثمار في مصر من مثل هذه القرارات التي سيكون من شأنها إزعاج المستثمرين سواء العرب أو الأجانب بل وسيؤدي إلي تطفيشهم »وبالتالي حرمان الاقتصاد المصري من الاستثمارات الأجنبية التي يمكن أن تساهم بصورة إيجابية في عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحقيقة أن مصر ستظل واحة الاستثمار في العالم نظرا لما تتمتع به من إمكانيات وقدرات هائلة ومتنوعة تغري المستثمرين من جميع أنحاء العالم لجلب أموالهم والاستثمار فيها وفي مقدمة هذه القرارات العمالة الفنية والقوة البشرية والموقع الإستراتيجي بين الشرق والغرب والمناخ المعتدل بالإضافة إلي ثرواتها الطبيعية مثل الزراعة والصناعة والتعدين وقناة السويس هذا المرفق المائي الدولي الهام الذي يربط بين مختلف قارات العالم.. ومصر لديها صناعات تصديرية جيدة وجدت لها أماكن تنافسية في العديد من أسواق العالم وخاصة الدول المتقدمة ومن هذه الصناعات السيراميك والسجاد والملابس الجاهزة والمنتجات الغذائية الطازجة والمصنعة والمنتجات الجلدية والأسمنت والأسمدة الكيماوية. قرار المحكمة الإدارية الأسبوع الماضي ليس الأول من نوعه فقد سبقه قرار إلغاء صفقة بيع »عمر أفندي« هذه المؤسسة الاقتصادية العملاقة التي كانت رمزا لقطاع التجارة الداخلية في مصر والتي بيعت للمستثمر السعودي بأقل من قيمتها بكثير كذلك مشروع توشكي وماتم من اتفاق مع المستثمر السعودي الوليد بن طلال لصالح الجانبين المصري والسعودي.. وبصرف النظر عما شاب كل هذه العقود من »عوار« وظلم بّين للاقتصاد والشعب المصري إلا أن مشكلة العمالة المصرية في هذه المصانع والشركات وقيام المشترين الأجانب بتسريحهم سواء بالطرد أو مايسمي »المعاش المبكر« وبالمخالفة لنص اتفاق التعاقد بين الجانبين يعد أمرا مروعا ومشينا للغاية ويمثل ضررا بالغا لمصر وشعبها لايقبله أي مستثمر جاد أو شريف ولاشك أن هناك أنواعا مختلفة من المستثمرين فمنهم مستثمرون جادون يرغبون في إستثمار أموالهم بطرق مشروعة وبما يحقق صالح كلا الطرفين وعلي الطرف الآخر نجد مستثمرين غير جادين بل غير صادقين هدفهم ليس الاستثمار وإنما اقتناص الفرص وتحقيق مكاسب شخصية سريعة وهو مايمثل جورا وإهدارا للمصالح المصرية وقد تجلي ذلك في قيام بعض المستثمرين بالشروع في بيع بعض فروع عمر أفندي.. أو رهنها وقيام آخرين ببيع أجزاء من أراضي المصانع التي اشتروها للبناء مخالفين بذلك شروط التعاقد. إن قرار وقف بيع الشركات الثلاث ليس قرارا سياسيا »تمصير أو تأميم« وإنما هو قرار قضائي يستهدف الصالح العام والحفاظ علي ممتلكات هذا الشعب.. ومشاكل الاستثمار والمستثمرين ليست حكرا علي مصر فهي مشاكل موجودة في كل دول العالم وينبغي حلها بالطرق القانونية والقضائية حماية وحفاظا علي استقرار الأوضاع الاقتصادية بين الدول خاصة بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة وحمدا لله علي عظمة وشموخ ونزاهة القضاء المصري الذي يحظي بالتقدير في العالم كله. وبالتأكيد فإن »الخصخصة« لايجب أن يكون هدفها الإضرار بالمال العام وضياع مصالح المواطنين سواء ملاكا أو عمالا وإنما هدفها هو تطوير وتحديث هذه الصناعات لصالح المجتمع فإذا حادت عن هذا الهدف العظيم وجب بالقطع تصويبها. ولقد التقيت خلال عملي الصحفي علي مدي العقود الثلاثة الماضية مع العديد من المستثمرين الأجانب داخل مصر وخارجها في ألمانيا والنمسا وبولندا وإيطاليا وكان معظمهم جادين في العمل والاستثمار في مصر في مجالات مختلفة وكانت شكواهم الأولي هي »الروتين« الذي كان يعرقل جهودهم ويضع الصعوبات أمام تحقيق أهدافهم والاستثمار في مصر والمشاركة في عمليات التنمية ومعظم المستثمرين ورجال أعمال الصناعة الأجانب وخاصة الأوروبين والأمريكان واليابانيين يعلمون تماما أن النظم والأطر القانونية لابد أن تحكم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول وهو مايمثل ضمانا وحفاظا علي مصالحهم ومصالح الآخرين ولذلك فإنني علي يقين أن المستثمرين الجادين لاينزعجون من مثل هذه القرارات القضائية كما يحاول البعض أن يروج لها. غير أنه ينبغي علي الدولة وجميع مؤسساتها أن توضح أبعاد هذا القرار والظروف الاقتصادية والقانونية التي أدت إلي اتخاذه وتخاطب كافة الدول والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية والإقليمية والعربية لتأكيد سلامة موقفنا. ولاشك أن الإعلام المصري والعربي والأجنبي يمكن أن يلعب دورا بارزا ومؤثرا في إجلاء الحقيقة حول هذه القضايا وحقوق مصر والمستثمرين العرب والأجانب. كما أن السفارات المصرية في الخارج ومكاتبنا الإعلامية والتجارية عليها هي الأخري دور غاية في الأهمية بمالها من علاقات واتصالات مع أجهزة الإعلام الأجنبية والعربية والمسئولين عن القطاعات الاقتصادية والتجارية ومؤسسات التمويل والاستثمار في هذه الدول من أجل وضع النقط علي الحروف في هذه القضايا الهامة لصالح جميع الأطراف. وقضية »طابا« ليست ببعيد عندما عبأت مصر كل إمكانياتها وقدراتها القانونية والتاريخية والإعلامية وكسبت قضية »التحكيم« في واحدة من أهم المشاكل الدولية ضد اسرائيل برغم كل مالها من نفوذ وتأثير علي مستوي العالم.