حالة من الجدل سادت أوساط المسيحيين بعد الإعلان عن التوقيع علي اتفاقية بين الكنيستين الرومانية والمصرية بشأن سر المعمودية، أحد أسرار الكنيسة السبعة، بما يفتح باب التقارب بين الفاتيكان والبطريركية المرقسية، ويسمح بعدم إعادة المعمودية للشخص الذي ينتقل من كنيسة إلي أخري، لكن الغموض ساد حول فحوي البيان الذي وقّع عليه البابا تواضروس الثاني مع الحبر الأعظم البابا فرنسيس خلال زيارة الأخير لمصر الشهر الماضي، فالشارع القبطي انقسم حول تقييم الاتفاقية التي أعلنت الكنيسة المصرية ما يشبه التراجع عنها بالقول إنها مجرد بيان لفتح باب النقاش حول المسائل العالقة. ويعد سر المعمودية أحد أسرار الكنيسة المقدسة التي يثبت عبرها المرء في العقيدة المسيحية، وبدون أداء هذه الأسرار السبعة علي يد رجال الكنيسة لا يعدُّ المسيحي مسيحيا، وهي: سر المعمودية، وسر زيت الميرون المقدس، وسر القربان أو التناول، وسر التوبة والاعتراف، وسر مسحة المرضي، وسر الزواج، وسر الكهنوت، ويقصد بالأسرار بحسب المنظور المسيحي أنها طريقة الحصول علي نعمة سرية غير منظورة بواسطة مادة منظورة، ويأتي سر المعمودية في مقدمة هذه الأسرار، لأنه بحسب قوانين الكنيسة هو باب الأسرار وبدونه لا يمكن نوال استحقاقات الفداء، وهو سر الولادة وأول الأسرار التي ينالها الشخص المسيحي. ويعود سر المعمودية إلي السيد المسيح الذي تم تعميده في نهر الأردن علي يد يوحنا المعمدان (يحيي عليه السلام في الإسلام)، ورغم اتفاق الكنائس علي سر المعمودية إلا أنها تختلف فيما بينها حول تفاصيل طقوس وأداء المعمودية، ففي الكنيسة الأرثوذكسية (كنيسة عموم المسيحيين في مصر)، يتم تغطيس الأطفال علي يد كهنة الكنيسة، داخل وعاء ممتلئ بالماء بشكل كامل ثلاث مرات، فيما تجيز الكنيسة الكاثوليكية صب الماء ثلاث مرات علي رأس المعمّد فقط. وخلال زيارة البابا فرنسيس لمصر نهاية أبريل الماضي، وقّع مع البابا تواضروس، رأس الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، علي وثيقة لإنهاء الخلاف بين الكنيستين في مسألة إعادة سر المعمودية، ما يعني توحيدها بين الكنيستين، وجاء في نص البيان الموقع: "نحن اليوم، البابا فرنسيس والبابا تواضروس الثاني، لكي نسعد قلب ربنا يسوع، وكذلك قلوب أبنائنا وبناتنا في الإيمان، فإننا نعلن، وبشكل متبادل، بأننا نسعي جاهدين، بضمير صالح، نحو عدم إعادة سر المعمودية الذي تمَّ منحه، في كلٍّ من كنيستينا لأي شخص يريد الانضمام للكنيسة الأخري. إننا نقرُّ بهذا طاعةً للكتاب المقدس ولإيمان، المجامع المسكونية الثلاثة التي عُقدت في نيقية والقسطنطينية وأفسس". لكن الرفض الذي قوبل به البيان من قبل المجتمع الأرثوذكسي في مصر، دفع الكنيسة المصرية للتأكيد علي أن ما تم التوقيع عليه هو مجرد اتفاق مبدئي لفتح باب النقاش، وخرج البابا تواضروس نفسه لتوضيح الأمور مستغلا زيارته الأخيرة إلي العاصمة البريطانية؛ لندن، للقول بأن البيان المشترك تضمن الحديث عن العلاقات بين الكنيستين علي مدار التاريخ، ثم استعادة الحوار بينهما منذ العام 1973، ثم الجزء المتعلق بمستقبل العلاقة بينهما، وفيه تم التطرق لموضوع عدم إعادة المعمودية الممارسة في الكنيستين، وأن البيان المشترك كان واضحا في أن بحث هذه المسألة كخطوة أولي للسعي نحو التقريب وليس اتفاقا نهائيا. الانقسام القبطي بدا واضحا علي وسائل التواصل الاجتماعي، إذ انقسمت بين مؤيدي توحيد المعمودية وبين رافضيه، فبين من يهاجم الكنيسة الأرثوذكسية لأنها فرّطت بزعمهم عن أسس الإيمان، وبين من يري أن ما تم خطوة علي الطريق الصحيح لسد الهوة بين الكنائس المسيحية، ما يفتح الباب أما الزواج بين أبناء الأرثوذكس والكاثوليك دون منغصات، فيما انتقد بعض النشطاء المسيحيين ما تم ترويجه بأن ما تم بين البطريركين كان لفتح باب الحوار، لأن باب الحوار كان مفتوحا منذ العام 1973، فلماذا الحديث عن فتح الباب الحوار المفتوح أصلا. الرأي المتمسك بإجراء حوار لحل الأمور العالقة قبل الاتفاق بين الكنيستين علي توحيد سر المعمودية يمثله مينا أسعد، المفكر والباحث القبطي، الذي قال ل "آخر ساعة": "ما جري لم يكن اتفاقية نهائية بل تم التوقيع علي بيان لمناقشة قضية سر المعمودية بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، والكيفية التي تم الإعلان بها عن البيان أوحت بأنها اتفاقية نهائية وهذا غير صحيح"، وأشار إلي أن أي اتفاقية لابد أن يسبقها فتح باب النقاش والحوار المجتمعي حول القضية قبل اعتماد موقف نهائي فيه، وهو ما لم يحدث في مسألة توحيد المعمودية. تابع أسعد: "الحوار بين الكنيسة المصرية والفاتيكان بدأ منذ العام 1970 بشكل غير رسمي، ثم أخذ طابعا رسميا بزيارة البابا شنودة الثالث للفاتيكان العام 1973، ثم توقف الحوار في حدود العام 2000، لأن الفاتيكان وقّع اتفاقيات مع الكنيسة الأرثوذكسية ولم يلتزم بها خاصة فيما يتعلق بعدم استقطاب رعايا الكنائس الأخري، كما أن أحد أهم المسائل العالقة هي اعتراف الفاتيكان بالكنيسة الأشورية النسطورية التي لا تعترف بها الكنيسة المصرية، فكيف نقر المعمودية مع الفاتيكان وهو يعترف بمعمودية النساطرة". وشدّد أسعد علي ضرورة أن هناك قضايا عالقة في مفهوم الإيمان بين الكنيسة القبطية والفاتيكان، لأن أسس الإيمان المسيحي غير متفق عليها بين الكنيستين، وتحتاج إلي مزيد من النقاش، وذهب إلي "إمكانية التعاون مع الكنيسة الكاثوليكية في العديد من الأمور كبداية، مثل العمل علي تعزيز التعاون الثقافي، والاستفادة من خبرة الفاتيكان في رعاية المخطوطات في العناية بالمخطوطات القبطية الموجودة في الأديرة المصرية، كما يمكن اعتماد الشهادات الإكليريكية في الكنيستين، مع فتح نقاش حول الإطار العقائدي للكنيستين بعدها نستطيع الحديث عن توحيد المعمودية". بدوره، تمسك راعي كنيسة العذراء بمسطرد عبد المسيح بسيط، أستاذ اللاهوت الدفاعي بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في تصريحات ل "آخر ساعة"، بأن ما تم التوقيع عليه هو مجرد بيان لفتح باب النقاش حول الأمور العالقة بين الكنيستين، مضيفا: "الخلاف بين الكنيستين يعود إلي نحو 15 قرنا، لكن بالحوار يمكن أن نصل إلي حلول لجميع المشاكل والأزمات، لنصل في النهاية إلي حلول جذرية لجميع الأمور العالقة، وصيغة البيان واضحة بالحديث عن السعي لتوحيد المعمودية، أي أنه يفتح باب الحوار حول المسألة لا يقرها بشكل نهائي". وبينما رأي الأنبا يوحنا قلتة، نائب بطريرك الكاثوليك في مصر، أن الاتفاق واضح بشأن الاعتراف المتبادل بسر المعمودية، ذهب الدكتور كمال زاخر، المفكر القبطي، إلي أن البيان المشترك خطوة علي الطريق الصحيح، في التقارب بين الكنائس والمضي قدما لإجراء حوار لاهوتي لحل المشاكل العالقة، مشددا ل "آخر ساعة"، علي أن "بعض المسيحيين الأرثوذكس عبروا عن خشيتهم من أن يكون البيان المشترك خطوة علي طريق تنازلات تؤدي إلي انصهار الكنيسة المصرية في الفاتيكان وهذا غير صحيح". جدير بالذكر أن العلاقات بين الكنيسة الإسكندرية وكنيسة روما مرت بتاريخ طويل من العداء والتنافس، بداية من مجمع نيقية المسكوني الأول العام 325 ميلاديا، إذ كانت الإسكندرية مركزا للدراسات اللاهوتية فدارت فيها النقاشات حول طبيعة السيد المسيح، ومع زيادة نفوذ الكنيسة المصرية وتدخلها في صياغة قانون الإيمان المسيحي، بدأت الخلافات تأخذ شكلا أكثر حدة مع كنيسة روما، ما أدي في النهاية إلي الصدام في مجمع خلقدونية المسكوني العام 451 ميلاديا، ما أدي إلي انشقاق كنائس الإسكندرية وإنطاكية والمشرق في صف وكنيسة روما والكنيسة البيزنطية في صف آخر، ولم يتم استعادة العلاقات رسميا إلا العام 1973 بزيارة البابا شنودة الثالث للفاتيكان، فيما زار البابا يوحنا بولس الثاني مصر، وهو أول بابا كاثوليكي يزور مصر علي الإطلاق؛ العام 2000.