»هل تعتقدون أننا أغبياء؟!.. هل تظنون أننا نسينا؟!»، بهذين السؤالين الغاضبين الاستنكاريين هتف مندوب بوليفيا في مجلس الأمن، موجها حديثه للمحور الغربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية وحليفتها الدائمة بريطانيا، قبل أن يُخرج من أسفل طاولته صورة لكولن باول الذي شغل حقيبة الخارجية في عهد جورج بوش الابن.. صورة يعود تاريخها ليناير 2003، أي قبل شهرين فقط من جريمة الغزو الأمريكي للعراق في مارس من نفس العام.. وقتها أمسك باول بصور قال إنها التقطت بواسطة الأقمار الصناعية، وكانت تُظهر أجساماً غير واضحة المعالم، وأصر ومعه مندوب المملكة المتحدة أن ما يظهر في الصور ليس إلا مخازن أسلحة دمار شامل يمتلكها عراق صدام حسين، ومن هنا استحلت لندنوواشنطن قتل مليون عراقي وتشريد 5 ملايين آخرين وإغراق بلاد الرافدين في جحيم حرب طائفية شيعية سنية، أغلب الظن أنها ستستمر ليوم يُبعثون. الأحداث الدائرة في سوريا اليوم ينطبق عليها مقولة ما أشبه الليلة بالبارحة، فحتي لحظة كتابة هذه السطور لم تظهر أسلحة الدمار الشامل التي بنت عليها أمريكا وحلفيتها أكاذيب تبرير غزو العراق، بل اعترفت أجهزة المخابرات الأمريكية لاحقاً ببرود تفوقت فيه علي الإنجليز بأنها أساءت التقدير. واليوم لم تستطع إدارة ترامب الانتظار لإجراء تحقيق دعت إليه روسيا لمعرفة من المتسبب في إطلاق غاز السارين في قرية خان شيخون الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة بريف إدلب، حيث تتهم واشنطن وحلفاؤها نظام الرئيس بشار الأسد بأنه المسؤول عن استخدام الغاز المحرم دولياً ولكن بدون أدلة سوي بعض من الصور مجهولة المصدر حملتها نيكي هايلي مندوبة أمريكا في مجلس الأمن، لمن زعمت أنهم ضحايا استخدام غاز السارين. وأصدر ترامب أمره بتوجيه الضربات الجوية رغم تعهده خلال حملته الانتخابية في عام 2016 بتفادي التدخل في صراعات الشرق الأوسط. وكان عاتب أيضا قبل أربعة أعوام الرئيس السابق باراك أوباما لإحجامه عن الرد بعد أن شنت الحكومة السورية هجوما بالغاز علي مواطنيها. وأغضبت التناقضات الأيديولوجية الواضحة بعضا من أقوي مؤيدي ترامب من أقصي اليمين. وقال بول جوزيف واتسون وهو رئيس تحرير موقع إنفوورز الإعلامي الأمريكي ومقره لندن علي تويتر إنه »نزل من قطار ترامب». وكان ترامب أشاد من قبل بموقع إنفوورز. أما ريتشارد سبنسر، الذي يصف نفسه بالزعيم القومي الأبيض، فوصف قرار ترامب »بالخيانة» و»نهاية شعار أمريكا أولا». ما قبل الضربة وكالة رويترز للأنباء نقلت عن مراسليها في البيت الأبيض، ما وصفته بتفاصيل الساعات التي تلت الضربة، وجاءت علي النحو التالي: كشف مسؤول أمريكي أن الرئيس دونالد ترامب استعرض احتمال قصف قصر الرئيس السوري بشّار الأسد المسمي خيار (قطع الرأس) عند بحثه مع أركانه قرار توجيه ضربة عسكرية لسوريا، الخميس الماضي. وذكر هربرت ماكماستر، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي، أن ترامب ناقش مع أعضاء المجلس وجنرالات وزارة الدفاع 3 خيارات قبل أن يقرر توجيه الضربة الصاروخية التي استهدفت قاعدة للجيش السوري في حمص، بينها عملية »قطع الرأس» التي تتضمن مهاجمة قصر الرئيس السوري بشار الأسد مباشرة دون التسبب بقتله وانهيار غير محسوب للنظام، إنما بقصد دفعه للاستسلام والقبول بالحل السياسي وانتقال السلطة خلال أشهر. إلا أن ترامب حيّد الخيار الأول بعد نصيحة مستشار الأمن القومي الذي طرح خشية الولاياتالمتحدة من سقوط الأسد مباشرة واستيلاء المتطرفين علي السلطة وتكريس أمر واقع خارج سيطرة المجتمع الدولي. وبعد أن انحصر الأمر بخيارين، اتخذ ترامب قراره باختيار أصغر الهجمات (الخيار الثالث) قائلاً let,s start with this (دعونا نبدأ بهذه). وتمثل الخيار الثاني بتدمير كامل الدفاعات الجوية فوق خط العرض 36 (من إدلب حتي الحدود التركية) لفرض منطقة حظر طيران، بالإضافة لتدمير 60 هدفاً أرضياً تحت هذا الخط (من إدلب وحتي درعا)، أما الخيار الثالث والذي اعتمده ترامب، فيقضي بتدمير مطار الشعيرات الذي تزعم وكالة الاستخبارات الأمريكية ال »IA أنه استخدم في الهجوم الكيماوي علي خان شيخون. ونقلت وكالة رويترز عن مسؤول أمريكي قوله إن ترامب كان في منتجعه بفلوريدا، عصر الخميس بتوقيت واشنطن، لعقد أول قمة له مع نظيره الصيني شي جينج بينج. لكن القمة نحيت جانباً لإفادة بالغة السرية من مستشار الأمن القومي الأمريكي ماكماستر ووزير الدفاع جيمس ماتيس، وذلك قبل ساعات قليلة فقط من انهمار 59 من صواريخ كروز الأمريكية علي قاعدة الشعيرات الجوية العسكرية في محافظة حمص السورية، رداً علي ما وصفته واشنطن بأنه »عار علي الإنسانية». وقال مسؤول آخر مطلع علي المناقشات إن الإدارة لديها خطط طوارئ لضربات إضافية محتملة اعتماداً علي كيفية رد الأسد علي الهجوم الأول. وأضاف هذا المسؤول: »الرئيس، من يحدد ما إذا كان ذلك (الضربات الجوية) انتهي. لدينا خيارات إضافية جاهزة للتنفيذ». وقال ثلاثة مسؤولين شاركوا في المناقشات إن ترامب اعتمد في مواجهة أول أزمة له في مجال السياسة الخارجية إلي حد بعيد علي ضباط عسكريين متمرسين: ماتيس، الجنرال السابق في مشاة البحرية الأمريكية، وماكماستر، وهو لفتنانت جنرال بالجيش الأمريكي، وليس علي المسؤولين السياسيين الذين هيمنوا علي قراراته السياسية في الأسابيع الأولي لرئاسته. وقال مسؤولان كبيران شاركا في هذه الاجتماعات إنه فور ورود أنباء عن الهجوم بالغاز، يوم الثلاثاء الماضي، طلب ترامب قائمة خيارات لمعاقبة الأسد. وقال كبار مسؤولي الإدارة إنهم التقوا بترامب مساء الثلاثاء وقدموا خيارات، منها عقوبات وضغوط دبلوماسية وخطط لمجموعة متنوعة من الضربات العسكرية علي سوريا، وجميعها كانت معدة قبل أن يتولي السلطة. وقال أحد المسؤولين إن أكثر الخيارات قوة يسمي بضربة »قطع الرأس» علي قصر الأسد الرئاسي الذي يقبع منفرداً علي قمة تل إلي الغرب من وسط دمشق. وذكر مسؤول أنه »كان لديه (ترامب) كثير من الأسئلة وقال إنه أراد أن يفكر بشأنها لكنه كان لديه أيضاً بعض الملاحظات..أراد تنقية الخيارات». وفي صباح الأربعاء، قال مسؤولو المخابرات ومستشارو ترامب العسكريون إنهم تأكدوا من أن القاعدة الجوية لنظام الأسد استخدمت لشن الهجوم الكيماوي وأنهم رصدوا طائرة سوخوي-22 المقاتلة التي نفذته. وأبلغهم ترامب بالتركيز علي الطائرات العسكرية. وعصر الأربعاء الماضي، ظهر ترامب في حديقة الورود بالبيت الأبيض وقال إن الهجوم »الذي يتعذر وصفه» ضد »حتي الأطفال الرضع» غيّر موقفه من الأسد. وسئل عما إذا كان بصدد صياغة سياسة جديدة بشأن سوريا فرد ترامب بالقول »سترون». وفي نحو الساعة 3:45 من عصر الثلاثاء بتوقيت دمشق، دعا الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، إلي اجتماع طارئ لقادة أفرع القوات المسلحة في البنتاجون لوضع اللمسات الأخيرة علي خطة الضربات العسكرية. وقال البيت الأبيض إن ترامب وقع بعد قليل من الرابعة مساء علي أمر بشن الهجمات الصاروخية. ألغاز غير أن الضربة خلفت وراءها عددا من الألغاز عصية علي الفهم، حيث أكدت واشنطن أنها أبلغت موسكو، الحليف الوثيق للأسد، بالضربة قبل تنفيذها ثم خرج رئيس الوزراء الروسي بعد الهجوم ليؤكد أن الصواريخ الأمريكية كادت تتسبب في اشتباك مع القوات الروسية المتواجدة في سوريا ! فهل نحن أمام مسرحية هزلية مُرتبة الأدوار بين الكرملين والبيت الأبيض. ومن جانبها قالت دمشق إن الضربة كانت »متوقعة ومحدودة الخسائر» وأنها نقلت عدداً من مقاتلاتها إلي مطار T4 العسكري قبيل الهجوم والأهم هو إعلان وزارة الدفاع السورية أنها سوف تستأنف الطلعات الجوية من قاعدة الشعيرات قريباً بما يعني أن المدرج لم يُصب بأضرار، وفي الوقت نفسه يؤكد خبراء عسكريون أن رقم ال59 صاروخ توماهوك المستخدمين في الهجوم علي القاعدة، هو رقم مبالغ فيه جداً، إذ إن تدمير القاعدة بالكامل قد لا يحتاج لأكثر من 5 صواريخ علي أقصي تقدير، كما أن الرواية الروسية تؤكد أن عدد الصواريخ التي سقطت علي الشعيرات لم يتجاوز ال23 صاروخاً، وهو ما يدعو للتساؤل أين ذهبت باقي الصواريخ؟ وإذا كان ترامب المرشح أكد أن من يريد الحماية الأمريكية عليه أن يدفع ثمن ذلك، فمن دفع ثمن الصواريخ التي أطلقت علي سوريا؟