تنفق مصر سنوياً مليارات الجنيهات لتنفيذ مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي، وفي وقت تبدو البلاد مُهددة بالتعرض لشحٍ مائي بسبب تشييد سد النهضة الأثيوبي الذي سيقلص حصة مصر المائية، فإن خبراء يرون أن أحد حلول الأزمة المرتقبة هو إعادة تدوير مياه الصرف الصحي، لاستخدامها في أغراض مثل الزراعة والاستحمام.. لكن باحثين مصريين لم ينتظرا وقوع الكارثة وابتكرا أول وحدة منزلية لإعادة تدوير مياه الصرف. قبل شهور قليلة من اندلاع ثورة يناير 2011، قال وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية وقتذاك أحمد المغربي، إن الدولة تدعم قطاع مياه الشرب والصرف الصحي بنحو مليار جنيه سنوياً لتعويض الفارق بين الإيرادات والتكاليف، بالإضافة إلي 15 مليار جنيه سنوياً للمشروعات الجديدة والإحلال والتجديد، مشيراً في كلمة ألقاها خلال افتتاحه المؤتمر الدولي الأول لمياه الشرب والصرف الصحي إلي أن الحكومة ترصد30% من ميزانيتها السنوية لخدمات مياه الشرب والصرف الصحي. وبعد مرور نحو 6 سنوات علي هذا التصريح الصادم، وهي السنوات الست ذاتها التي مرت علي ثورة شعبية أطاحت نظاماً أهدر الكثير من حقوق المصريين، فإن مخاوف مازالت تسيطر علي قطاع عريض من المصريين من احتمالية حدوث أزمة في المياه، تتنامي يومياً كلما أنهت أديس أبابا مرحلة جديدة من بناء سد النهضة. ولعل هذا ما يفسر لنا التصريح الأشد قسوة الذي أطلقه أخيراً وزير الموارد المائية والري الحالي محمد عبدالعاطي، حين قال في كلمة له بمؤتمر »استخدام مياه الصرف الصحي والوقود» بجامعة الأزهر، مايو الماضي، إن مصر تستهلك من 105 إلي 110 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً، وأن حصة مصر من مياه النيل 55 ملياراً والمياه الجوفية والمطر 6 مليارات متر: »لابد من معالجة مياه الصرف الصحي لتوفير احتياجات الزراعة والشرب، والتغلب علي تلك المشكلة في المستقبل». وبعيداً عن التصريحات الحكومية قديماً وراهناً، فإن باحثين مصريين، استشعرا الخطر الذي يتهدد البلاد، ما لم يتم إيجاد حلول بديلة لتوفير المياه، فقرر جمعة طوغان مع زميله وليد علي، تنفيذ أول وحدة منزلية لإعادة تدوير مخلفات الصرف الصحي، يتم فيها فصل المخلفات الصلبة عن السائلة، وإعادة استخدام كل منهما في الزراعة وسيفونات الحمامات وغسيل السيارات وأغراض أخري عديدة. »آخرساعة» زارت قرية »العزيزية» التابعة لمحافظة الجيزة، للتعرف علي الباحثين اللذين طبقا الفكرة في منزل جديد يملكه أحدهما، وقد وقع الاختيار علي هذا المكان نظراً لعدم وصول شبكات الصرف الصحي إليه، مثله في ذلك مثل مئات القري في صعيد مصر ودلتاها، والتي مازالت تعتمد علي نظام »الطرنشات» التي يتم نزحها كل فترة، وغالباً يتم إلقاء مخلفاتها الضارة في المصارف والترع، لتصل إلي الأراضي الزراعية وتسمم المحاصيل، وتعد سبباً رئيساً في انتشار أمراض مزمنة، مثل السرطان والفشل الكلوي. يقول صاحب براءات الاختراع العديدة، المهندس الزراعي جمعة طوغان، إن الدافع الأساسي وراء ابتكار وتنفيذ هذه الفكرة هو محاولة إيجاد حل سريع لأزمة نقص المياه المتوقعة بعد بناء سد النهضة الأثيوبي، مضيفاً أن هناك قري كثيرة في مصر مازالت تعتمد علي نظام »الطرنشات»، وكان لابد من تقديم حل يتيح إلغاءها من ناحية والاستفادة من مخلفات الصرف من جهة أخري، فكانت فكرة ابتكار وتنفيذ أول وحدة منزلية لإعادة تدوير المخلفات الناتجة عن الصرف الصحي. ويشرح مع زميله الشاب وليد علي، وهو أيضاً أحد العقول المبتكرة ونفذ العديد من الاختراعات المفيدة في مجال توفير الطاقة وغيرها، كيف تعمل هذه الوحدة المنزلية، موضحاً أنها تضم ماسورة رئيسية للصرف (تجميعة البيت بالكامل) تنزل إلي أسفل لتتجمع في خزان »برميل» يتحدد حجمه حسب عدد أفراد الأسرة وحجم استهلاكهم اليومي، ففي حالة عمارة كبيرة يمكن استخدام خزان كبير سعة 10 أمتار مكعبة، وهناك برميل آخر أقل في مستوي الارتفاع يأخذ المياه التي تم ترسيب العوالق منها ويُسمي خزان المياه الرماية. ويلتقط منه وليد طرف الحديث، موضحاً أن البرميل الأول تبقي فيه الرواسب الثقيلة من فضلات آدمية وبقايا فضلات المطبخ (مثل تفل الشاي)، ويتم نقل هذه الرواسب أوتوماتيكياً كل فترة إلي خزان ثالث، حيث تبدأ عملية التخمير لهذه الفضلات الصلبة (الحمئة)، بغرض إنتاج السماد العضوي والغاز الحيوي »غاز الميثان» الذي يمكن الاستفادة منه في البوتاجاز أو تسخين المياه في الشتاء أو تشغيل مولدات كهربائية لتعويض انقطاع التيار. ثم يشير طوغان إلي سطح المنزل، فنلمح باقي مراحل الوحدة، فنصعد معه لنتابع علي الطبيعة المرحلة الثالثة، حيث يوضح: هنا تصل المياه التي تم رفعها من الخزان الرمادي إلي سطح المنزل، لتخضع إلي عملية معالجة نباتية، حيث تتم فلترة هذه المياه بواسطة فلتر للشوائب قمنا بتصنيعه محلياً من الحصي والرمل والكربون للتخلص من الشوائب حتي (5 ميكرون) ثم يتم رفع هذه المياه إلي خزان علوي يتم فيه ضخ الهواء للتخلص من عناصر معينة مثل الحديد وتنشيط البكتريا الهوائية في المياه. وتدخل المياه إلي أحواض مدرجة مثل السلم، وهي فكرة كما يقول الباحثان مستوحاة من الهرم المدرج الذي يظهر علي مرمي البصر من سطح المنزل، أما المعالجة النباتية فالهدف منها التخلص من المواد السامة الموجودة في المياه، ويتم الاعتماد في هذه الخطوة علي نباتات لا تتوافر سوي في مصر، وهو ما يجعل هذه الوحدة فكرة مصرية خالصة يصعب استخدامها في أي مكان آخر في العالم، وهي نباتات مثل ورد النيل والأوزولا واللوتس، حيث تستغرق عملية المعالجة نحو أربعة أيام، قبل أن تصل المياه المعالجة إلي المرحلة النهائية، حيث تستقر في خزان أخير تعالج فيه بغاز الأوزون، وتصلح هذه المياه النقية جداً لري المحاصيل الزراعية والسيفونات وغسيل السيارات ومسح السلالم وغيرها من الأغراض الشبيهة التي نهدر فيها يومياً كميات هائلة من المياه. ولم يكتفِ الباحثان بذلك، فاستكمالاً للعمل التكاملي للوحدة المنزلية، يتم تحويل جزء من المياه المُعالجة إلي أحواض للزراعة علي سطح البيت، حيث يمكن زراعة أي محاصيل حسب الموسم الزراعي، وبالفعل رأينا أحواضا بها جرجير وبصل وريحان، ونظام الري - مثله مثل جميع مراحل الوحدة - يتم أوتوماتيكياً من خلال جهاز يتم ضبطه ب»تايمر» لتحديد وقت كل عملية ري. كلفة هذه الوحدة ليست كبيرة كما قد يظن البعض، بل هي كما يقول طوغان وعلي، محدودة للغاية فهي لا تتجاوز 10 آلاف جنيه، وإذا تشارك فيها سكان عمارة كاملة ستكون القيمة أقل بكثير، وستكون الفائدة هي تقليل التلوث البيئي وتحجيم زحف الأمراض إلي أجساد المصريين، وتوفير مليارات الجنيهات التي تنفقها الدولة من الموازنة العامة سنوياً لإنشاد وإحلال وتجديد شبكات الصرف، ويمكن أن تعميم الفكرة في المناطق النائية أو القري والنجوع التي لم تصل إليها خدمات الصرف الصحي حتي الآن. ويبدو أن الفكرة راقت لبعض سكان قرية العزيزية، بعد أن رأوا بأعينهم كيف تم تطبيقها بسهولة، وبتكلفة بسيطة مقارنة بما كانوا يدفعونه كل عدة شهور لتفريغ »الطرنشات» باستخدام سيارت نزح مياه الصرف، فقرر بعض أصحاب البيوت المتاخمة تطبيق نظام الوحدة المنزلية لديهم، كما قال طوغان وعلي: إنهما تلقيا طلبات من سكان عمارات في مناطق مختلفة لتنفيذ الفكرة لديهم، حتي في مناطق ليست زراعية، حيث يتم الاستفادة من المياه المعالجة من خلال إعادة استخدامها في مياه السيفونات بدورات المياه، وتتجلي أهمية ذلك بالنظر إلي أن كل مرة يتم فيها دق سيفون الحمام يتم استهلاك نحو 20 لتراً من المياه الصالحة للشرب، لكنها بكل أسف يتم إهدارها في مواسير الصرف. كما يؤكد الباحثان أن تعميم هذه الفكرة يمكن أن يتم في إطار مشروع قومي تتبناه الدولة لترشيد استهلاك المياه، وتوفير الأسمدة العضوية والغاز المستخدم في بوتاجازات المنازل، وبشكل آخر يمكن إجبار أصحاب المنازل الذين سيطبقون المشروع علي زراعة أسطح بيوتهم، وهذا مفيد لهم من الناحية الاقتصادية، ومفيد للدولة في مواجهة ظاهرة تصحر الأراضي بسبب البناء العمراني الجائر عليها، كما أن وحدة من هذا النوع بكلفة بسيطة ستساهم في توفير 50% من قيمة فاتورة المياه، وتوفير قيمة نزح الطرنش التي تصل لحوالي 1200 جنيه سنوياً، وسيصبح أفراد الأسرة منتجين حين يزرعون علي أسطح منازلهم بعض المحاصيل، كما يمكن تربية الديدان الحمراء التي تستخدم كطُعم للأسماك علي المخلفات الصلبة للصرف الصحي، ويباع الكيلوجرام منها ب160 جنيهاً، حيث تستخدم كعلف للأسماك لاحتوائها علي بروتين بنسبة 80% وهو ما يمثل فرص عمل تدر دخلاً علي أصحابها دون عناء يذكر. ويناشد الباحثان الرئيس عبدالفتاح السيسي بتبني هذا المشروع القومي في المدن الجديدة وخاصة في العاصمة الإدارية الجديدة التي يجري إنشاؤها حالياً، لتصبح لدينا مدن صديقة للبيئة ومنتجة وموفرة للمياه.