يوسف السباعى .. فارس الرومانسية ولقطة من فيلم »نحن لانزرع الشوك« لشادية ومحمود ياسين »لا أجد علي شفتي كلما لقيتك سوي أهلا« هذه الجملة التي كتبها يوسف السباعي عنوانا لمقاله الأسبوعي ويومياته التي كان يكتبها في مجلتنا »آخر ساعة« حين كان رئيسا لتحريرها.. جملة تدل علي الرقي والجمال ولأنه جاء من قبله ومن بعده بعض رؤساء التحرير الغاضبين الذين حاولوا أن يفقدونا حماسنا للكتابة.. فإن يوسف السباعي ابن الأصول كان يعامل محرريه بأسلوب حضاري. لقد عشنا مراهقتنا وشبابنا علي مؤلفات يوسف السباعي ونجيب محفوظ وغيرهم.. لكن بحكم السن والمراهقة كنا نحب رواياته الرومانسية وكنا نستعيرها من مكتبة المدرسة. وأذكر مرة أن ذهبت إلي مدير المكتبة لأستعير كتابا فقلت له »إني راحلة« فرد الرجل خفيف الظل »مع السلامة ياستي«. تخرج يوسف السباعي من الكلية الحربية »سلاح الفرسان«.. كانت هوايته الكتابة منذ كان طالبا.. وكان رومانسيا بطبيعته فاشتهرت رواياته بالرومانسية.. فأطلق عليه »فارس الرومانسية«. وانتصرت الهواية علي الجيش لكي يتفرغ للكتابة. وكنا نقرأ رواياته باستمتاع.. وبنوع من الشجن مثل رواياته الأولي »إني راحلة« لكن يوسف السباعي لم ينس أيامه منذ كان ضابطا في الجيش.. فكتب »رد قلبي« هذه الرواية المأخوذة عن الواقع بعد الثورة.. وتبين الفارق الكبير بين الغلابة. وأولاد الباشوات من ضباط الجيش. ومن ينسي قصة »نادية« التي قامت ببطولتها ببراعة سعاد حسني التي قدمت شخصيتين في وقت واحد لأختين إحداهما شقية مقبلة علي الحياة والأخري عاقلة، وقد رشح يوسف السباعي سعاد للشخصيتين بعد أن عرضوا عليه شخصيات ممثلات أخريات.. منهن الممثلة زيزي مصطفي أيام شبابها وجمالها. ومن ينسي »مولد يادنيا« هذا الفيلم الاستعراضي الغنائي أول وآخر بطولة لعفاف راضي الذي استطاع حسين كمال أن يوظفها للدور توظيفا جيدا.. واشترك فيه معظم فناني الكوميديا.. واستمر عرضه أسابيع طويلة.. أيضا »أرض النفاق« وغيرها.
كان يوسف السباعي يستوحي رواياته من الواقع.. كما يهتم بشئون الطبقة الفقيرة والمتوسطة رغم أنه كان ينتمي لعائلة كبيرة.. وتعاطفنا مع كل شخصياته حتي بنات الهوي اللائي وصلن إلي الحضيض بسبب فقرهن وحاجتهن الشديدة إلي المال مثل »نحن لانزرع الشوك« الذي مثلته الفنانة القديرة شادية. وكان يشجعنا حينما نكتب مقالا يعجبه.. مشيدا بالمقال في »باب عزيزي« الذي توليت كتابته من بعده.. والذي يبدؤه بزميلتي.. كما كان يكتب ذلك أيضا في يومياته.
كان يوسف السباعي خلال فترة رئاسته »لآخر ساعة« يكتب رواية »نحن لا نزرع الشوك« علي حلقات أسبوعية.. وكنا ننتظر حلقاته بفارغ الصبر.. بل كنا نأخذ كل حلقة من المطبعة الخاصة بالجمع.. وكانت طريقة بدائية.. نأخذ »السلخ« المطبوعة.. وفي حجرتي بآخر ساعة التي كانت تضم الأصدقاء الأعزاء.. منهم من رحلوا.. ومنهم الذين مازالوا علي قيد الحياة.. نقرؤها باستمتاع قبل صدور المجلة. وأذكر أنه أسس مع كمال الملاخ جمعية كتاب ونقاد السينما وخصص لنا مكانا استقطعه من نقابة الممثلين في ذلك الدور حينما كان رئيسا لمجلس إدارة الأهرام ورئيس تحريرها.. وفي إحدي المرات غضب جدا لأنه لا توجد مائدة اجتماعات.. فقد كان يهتم بالناحية الجمالية للمكان. وقد انتقدناه حين ترك »آخر ساعة« وعين رئيسا لمجلس إدارة الأهرام.. لكن كنا علي صلة به من خلال جمعية كتاب ونقاد السينما.. كانت كل آرائه صائبة تدل علي الرقي والتحضر.. وقد انتخب نقيبا للصحفيين.. كما عين وزيرا للثقافة..
حاربه الكثير من الكتاب الشيوعيين واليساريين بدافع الحقد.. وكانوا يسخرون من كتبه التي كانت تطبع وتنشر بشكل جمالي لدرجة أن كتب أحدهم من باب السخرية جملة لا أنساها وهي: »مرة كتاب يوسف السباعي وقع علي رأس أحدهم فهشمها«. كان يوسف السباعي لا يحب الشيوعيين ولا سيرتهم.. وكان معه كل الحق.. فقد كانت فترة إدارة الشيوعيين لدار أخبار اليوم أسوأ فترة في حياتنا ككتاب وصحفيين.. لقد أرادوا أن يحولوا مدرسة أخبار اليوم التي خرجت كل كبار الصحفيين إلي جرائد ومجلات ثقيلة الظل.. بل أذكر مرة أن أحدهم قال لي: حينما تكتبين عن الفن لا تخصي فنانا بعينه بل اكتبي مقالاتك عن الفنانين عموما.. فقد كانوا يحقدون أيضا علي النجوم من الفنانين، وعاد هذا المشرف نفسه بعد ذلك يطلب مني أن أقوم بعمل موضوع عن أم كلثوم التي كان ينتظرها الشعب العربي كل خميس من أول الشهر!! وانتشرت شلل الشيوعية وغير الشيوعية كما انتشر المنافقون.. وانخفض التوزيع انخفاضا كبيرا.
وأذكر أنني التقيت بيوسف السباعي عندما كان وزيرا للثقافة.. وكانت السينما في ذلك الوقت تمر بأزمة كبيرة إثر هزيمة 1967.. وأغلقت الاستديوهات التي عششت فيها الخفافيش.. فهاجر معظم الممثلين إلي لبنان للعمل هناك ورفضوا العودة إلي مصر لأنهم عانوا من البطالة.. فأرسل لهم يوسف السباعي عبدالحميد جودة السحار الذي كان رئيسا لمؤسسة السينما في ذلك الوقت ليردهم إلي مصر.. ولقب هؤلاء النجوم وقتها »بالطيور المهاجرة«.
حين ذهبت لمكتب الوزير بمدينة الفنون بالهرم.. قال لي موظفو مكتبه إنه الآن في جولة داخل المدينة.. وبسرعة اتجهت إلي معمل الألوان وهناك وجدت الوزير واقفا وسط العمال والأحماض وهو يسأل عما تم إنجازه. إن من كان يري هذه الأرض الخضراء وهذه الطرق المرصوفة وهذه المباني الجديدة مركز الصوت ومعمل الألوان »وقاعة الوزير« وهي قاعة خصصت لعرض الأفلام عروضا خاصة للكتاب والصحفيين.. وقد تغير اسمها بعده لتستغل استغلالا آخر. وأخذني الوزير إلي مكان مليء بالقمامة.. التي كان يعمل فيها العمال ليل نهار.. هي قاعة سيد درويش.. لكي تعرض فيها مؤقتا عروض الأوبرا حتي ينتهي العمل في الأوبرا.. وأصبح يفد إليها السميعة من عشاق أغاني سيد درويش والموسيقي العربية. وكان الهدف من كل ذلك أن يصبح هذا المكان مدينة لكل الفنون والفنانين. كان يوسف السباعي كوزير يستقبل كل الناس كما كان يعمل معنا في »آخر ساعة«.. وكل فنان له شكوي يستمع إليها ويحاول حلها.. ومع كل هذه الإنجازات التي قدمها يوسف السباعي فقد حاربه الكثيرون من الكتاب الشيوعيين بدافع الحقد.. وسألته مرة عن تفسيره لظاهرة الهجوم عليه من هؤلاء الحاقدين قال لي »إن الدخول في معارك جانبية معادة لا تفيد أكثر من استنزاف الجهد وتضييع الوقت«.
كان لخبر استشهاده بيد الإرهابيين وقع حزين دامع.. فقد استشهد يوسف السباعي دفاعا عن الحق الفلسطيني الضائع.. قال لي موسي صبري بعد استشهاده.. لقد قلت له ألا يسافر بسبب غياب الأمن في هذه المنطقة ولكنه أصر علي الذهاب قائلا: »العمر واحد.. والرب واحد..« رحم الله أديبنا الكبير فارس الرومانسية وصاحب الابتسامة المشرقة.