احتفاء كبير للفيلم المصرى «قدرات غير عادية» المدينة الجميلة.. «بونة» كما أطلق عليها القدماء من أبنائها.. أو «هيبورن» كما سماها المؤرخون واحدة من أعرق المدن في التاريخ.. شهدت العديد من الحضارات وكانت ملاذا لكل عابري البحار «عنابة» ثرية بطبيعتها المتنوعة مابين جبال ووديان وسهول يقبع تحت أقدامها البحر الأبيض نقطة الوصل والتواصل مع العالم الخارجي.. أحد مصادر الرزق للمدينة وهمزة الوصل علي ثقافات أخري.. وأحيانا خاصة الآن هو الجحيم والمقبرة للفارين من بلادهم ومهاجرين لدول الغرب.. في صورة الهجرة غير الشرعية في هذه المدينة العريقة التي كانت تشع نورا وثقافة.. لكنها عانت من جراح الحقبة العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر.. وزرعت الخوف في نفوس البشر.. لكنهم ما رضخوا أبدا للتخلف والعودة للوراء.. ضحايا الإرهاب في الجزائر يزيد عن المائتي ألف نسمة ضحايا العنف أغلبهم من النساء والأطفال لكنها «الجزائر» بلد الصمود والمليون ونصف المليون شهيد استطاعت أن تلملم جراحها وتعيد الأمن إليها ولمدنها.. وتحارب الجهل بالفن.. لذا كان طبيعيا أن تهتم الدولة بعودة الروح لمهرجان «عنابة» والذي توقف لمدة ثلاثين عاما وأكثر ليعود فتيا قويا يسعي الجميع وتتضافر جهودهم لنجاحه. منذ ستة أشهر وعندما كنا في مهرجان «وهران» وعد وزير الثقافة الجزائري عز الدين ميهوبي بأن مهرجان عنابة سيعود قريبا وقد وفي بالوعد خاصة أن والي عنابة يوسف شرفة لم يدخر جهدا لدعم المهرجان. في الدورة الأولي بعد الغياب يترأسها المخرج الجزائري «سعيد ولد خليفة».. وقد اختار المهرجان أن يتحدث في ندوته الرئيسية عن الهجرة غير الشرعية سواء في الواقع أو السينما وبطلها المشترك «البحر المتوسط». في إطار المسابقة الرسمية التي تضم تسع عشرة دولة تتنافس فيما بينها علي الجائزة الكبري هذه الأفلام تمثل خمس عشرة دولة من بينها مصر.. سوريا.. تونس.. فرنسا.. إيطاليا.. الجزائر. هذا بالإضافة لعدد كبير من التكريمات لنجوم الفن السابع ممن رحلوا أو ممن مازالوا علي قيد الحياة متعهم الله بالصحة. كان الاحتفاء والتكريم من مصر لكل من الراحلين «نور الشريف وعمر الشريف».. وقد حضرت «مي نور الشريف» لتسلم درع التكريم.. بينما تسلم الدرع الخاص بعمر الشريف الابن العزيز الناقد «هيثم الهواري».
وقد تشكلت لجنة التحكيم الدولية من الكاتبة والسيناريست والمخرجة التونسية «كلثوم يرناز» رئيسا.. وعضوية كل من المخرج «كمال دهان» الذي قدم أروع مجموعة من الأفلام الوثائقية.. والمنتج الكرواتي غوران طوزيا ووالده فلسطيني.. والمخرج الجزائري الأصل «جان نويل بنكرازي» ومن إيطاليا «فيرجينيو فونا». والحقيقة أن اختيار الأفلام كان جيدا فقد برزت أفلام لم يكن يتوقع لها أحد أن تكون في مثل هذه الجودة مثل الفيلم الفرنسي «أداما» للمخرج «سيمون روبي» عن سيناريو له بالتعاون مع صديقه «جوليان ليلتي» وهو فيلم رسوم متحركة غاية في الروعة حيث يعد واحدا من الأفلام الهامة التي قدمت في المهرجان.. الجميل في الفيلم أن المشاهد البسيط يجده كذلك بينما في الحقيقة هو فيلم شديد الثراء من الناحية التاريخية والثقافية والحضارية.. ف«أداما» الذي يبلغ من العمر 21 عاما ويعيش في قرية نائية في غرب أفريقيا.. هذه القرية يعتقد سكانها في الأرواح وبأنها لها سلطات كبيرة عليهم.. ويحدث أن يتطوع شقيقه «سام» في الجيش الفرنسي أو «النصاري» كما يطلقون عليهم وذلك نظير بضعة جنيهات ذهبية.. مما يجعل أداما» يخرج باحثا عن شقيقه يطوي جبالا.. يخترق أنفاقا.. يركب البحار.. يساعده البعض.. ويحبطه آخرون حتي يصل لأوروبا وإلي مدينة فيردان ليلتقي بشقيقه ويعود به.. حكاية أسطورية لكنها بلورت قدرة الإنسان الأفريقي علي الصمود كما أنها قراءة في تاريخ أفريقيا التي كانت زمنا طويلا وربما مازالت أرضا خصبة للمستعمر الفرنسي حتي وإن كانت تحررت منه.. الإنسان فيها ملك للرجل الأبيض فهو الذي يتحكم في مصيره كيفما شاء كما يشير إلي أن الأفارقة والعرب من شمال أفريقيا أتوا بالنصر لأوروبا من النازية بالإضافة لكونهم أسسوا البنية التحتية في أوروبا وهم عصب الحياة فيها لكنهم لم يعاملوهم بمساواة وعاش العمال في ظروف غاية في المشقة والصعوبة.
فلسطين تشارك في المسابقة الرسمية بفيلمين الأول «متدرج» وقد سبق وعرضناه في رسائل مونبيلييه بفرنسا أما الفيلم الثاني فهو إنتاج فلسطيني كندي فرنسي بعنوان المطلوبون ال 18 وهو فيلم يمزج بين التسجيلي والرسوم المتحركة وهو مأخوذ عن واقعة حقيقية وقعت في قرية «بيت سحور» فأثناء الانتفاضة الأولي والحصار قائم علي القرية قرر الأهالي مقاطعة كل المنتجات الإسرائيلية وبالفعل قرروا شراء 18 بقرة من إسرائيل لكن إسرائيل اعتبرت ماحدث تهديدا لها خاصة أن السكان امتنعوا أيضا عن دفع الضرائب مما اعتبرته إسرائيل تهديدا للأمن.. وبدأت في شن حملة شرسة ضد الأبقار في نفس الوقت الذي كان يصر فيه الفلسطينيون علي استمرار المقاومة السلبية. الفيلم يمزج مابين الضحكة والدمعة.. فهو مأساوي لكن بصورة ساخرة للغاية وهو من إخراج عامر شومالي.. وبول كوين.
وفي إطار الأفلام التي تتحدث عن الهجرة عرض فيلم المخرج السنغالي «موسي توريه» القارب وهو واحد من أجمل الأفلام التي تكلمت عن الهجرة عبر البحر وكيف تم حشد ثلاثين شخصا لا يعرفون العوم والبعض منهم لم ير البحر أصلا.. وذلك في رحلة إلي أوروبا.. ومن مصر تم عرض فيلم «قدرات غير عادية» للمخرج القدير «داوود عبد السيد» بحضور بطلته «نجلاء بدر» وقد استقبل الفيلم بشكل جيد بالإضافة إلي أن نجلاء استطاعت أن تجيب بذكاء ولباقة علي أسئلة الصحافة في المؤتمر الصحفي الذي عقد بعد الفيلم.
ومن الجزائر عرض فيلم «السيدة الشجاعة» للمخرج «مرزاق علواش» والاسم يطلق علي نوع من الأقراص المخدرة تجعل من يتعاطاها «قلبه ميت» ويتسم بالشجاعة.. وكان فيلم «السيدة الشجاعة» أثار ضجة قبل عرضه في الجزائر لأن مخرجه عرضه في مهرجان حيفا في الأرض المحتلة.. لكن علواش دافع عن نفسه أن هذا يعود للإنتاج المشترك.. وعموما لايريد التحدث نهائيا في هذا الموضوع. وإذا كان «علواش» عمل مستشارا إعلاميا بوزارة الثقافة الجزائرية.. إلا أنه في سنواته الأخيرة خرج من عباءة النظام تماما وقدم صورة صادقة لما يحدث بالجزائر دون أي رتوش.. وهو ماحدث في فيلمه الأخير «السيدة الشجاعة» ومن قبل في أفلامه «الحراقة» و «باب الواد»..و«شوشو». في «السيدة الشجاعة» قدم صورة للشارع الجزائري ولبعض من الشباب الضائع الذي لايجد عملا ويعيش في العشوائيات.. «عمر» الفتي الشاب.. لص الشوارع الذي يخطف السلاسل الذهبية من رقاب النساء.. وكذلك حقائب اليد ويظل يجوب المدينة طوال اليوم سواء علي قدميه أو دراجته البخارية.. وهو يعيش مع والدته بعد وفاة والده التي تطلب المزيد من المال حتي لو عن طريق السرقة أو أن تمارس ابنتها الدعارة. وفي أحد الأيام يخطف «عمر» سلسلة «سلمي» الفتاة الرقيقة التي تنهار تماما.. لكن أمام نظرات أعينهما وعندما تلتقي نظراتهما يشعر بالحب يدب في أوصاله فيقرر أن يعيد السلسلة إليها. ويظل يتبعها ويلاحقها في كل مكان حتي يقبض عليه شقيقها الضابط.. الذي يحاول أن يجعله يبتعد عن شقيقته وفي نفس الوقت يحاول «عمر» أن يقتل «القواد» الذي اعتدي علي شقيقته. الفيلم يتميز بالإيقاع الشديد الذي قد يصل أحيانا لدرجة الملل.. لكن في محاولة تعادلية مع حركة «عمر» السريعة.. لقد نجح «مرزاق علواش» في استعراض عورات المدينة بلا خجل ليستمر «عمر» في سلوكياته حتي الحب لا يستطيع أن ينقذه.. ويعيده إلي الطريق.. وهذه حقيقة لأن المدينة التي لاتعطي الأمان لأبنائها فإنها تقتلهم ببطء شديد.