كانت قديما أيقونة مصر في صناعة الأثاث، وشهرتها تتخطي حدود الوطن كواحدة من أهم مراكز تصنيع الأثاث في العالم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لتجوب بمنتجاتها أشهر البلدان الأوروبية، وكانت عائداتها تسهم في إنعاش خزينة الدولة. إنها مدينة دمياط التي كان يطلق عليها في السابق "يابان مصر" لقدرتها علي مقارعة أشهر مناطق صناعة الأثاث عالمياَ من حيث الجودة والمتانة وروعة التصميم.. قبل أن تسحق الموبيليا المستوردة من الصين هذه الصناعة المحلية.. تلك المدينة العريقة باتت تحاصرها العقبات بدءا من ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة تحكم التجار والمستوردين في أسعار الخامات، وانتهاء بعدم كفاية الكوادر البشرية المؤهلة للعمل في مجال هذه الصناعة بسبب غياب التعليم المهني المتطور، إضافة إلي الركود الذي يضرب مصانعها وورش إنتاج الأثاث بها جراء سياسة إغراق السوق المصري بالأثاث المستورد "آخرساعة" توجهت إلي دمياط للوقوف علي حقيقة الأزمات التي تواجه هذه الصناعة. من مشارف مدينة دمياط انطلقنا باتجاه ميدان الساعة الشهير ومنه إلي منطقة البصارطة أحد معاقل صناعة الأثاث هناك، حيث اصطفت عشرات المصانع العمودية المكونة في الغالب من خمسة طوابق علي جانبي الطريق بطريقة عشوائية، وكان لقاؤنا بمحمد الحطيبي صاحب أحد المصانع المتوسطة، الذي أكد عدم وجود اهتمام بمصانع الأثاث في دمياط إلا في المنطقة الصناعية التي تضم حوالي 100 مصنع فقط بينما آلاف المصانع خارج المنطقة الصناعية لا تلقي أي اهتمام ولا يوجد تسويق جيد لمنتجاتها. يضيف: نحتاج إلي زيادة التدريب المهني لأن مهنة صناعة الأثاث في تطور دائم والمصانع في دمياط غير مواكبة لهذا التطوير عدا مصنع أو اثنين هي التي يتم دعمها، لكن الأغلبية الكاسحة في دمياط القديمة عبارة عن ورش صغيرة وهي الفئة الأكبر بين مصنعي الأثاث ولا يتم دعمها من أي جهة حكومية. يتابع: لكي أستخرج تصريحا للمشاركة في معرض للأثاث أواجه العديد من الصعوبات الروتينية التي تعوقني عن المشاركة، فلدي منتجات أثاث علي مستوي عالمي ولا أستطيع تسويقها مما يضطرني إلي الذهاب لتأجير معرض دائم في دولة أخري يصل إيجاره الشهري إلي 30 ألف جنيه. ويقترح محمد إنشاء بنك متخصص للأثاث الدمياطي يضم عدة فروع علي مستوي الجمهورية لإنهاء مشاكل صناعة الأثاث، ليكون بمثابة مندوب مصر في استيراد الخامات من الخارج سواء من خشب الزان الروماني، أو الابلاكاش الروسي وخشب التك والأرو، وبعدها يتولي توزيع الحصص علي الصناع مع تحديد سعر البيع مسبقاَ، وبذلك تستطيع الدولة التحكم في مخرجات إنتاج صناعة الأثاث، لافتاَ إلي أن إنشاء بنك الأثاث سيتيح التفاوض مباشرة مع الدول المصدرة للخامات علي إعادة تصدير نسبة 20% من الخامات التي توردها إلي مصر بعد تصنيعها، وذلك بالإضافة إلي إنشاء هيئة داخل بنك الأثاث تخصص جزءا من استثماراته لفتح أسواق جديدة، بالتوازي مع تجهيز الدعم الفني لصناع الأثاث عبر استيراد أحدث أنواع الماكينات وتولي شراء الأراضي وإنشاء المصانع صغيرة بمساحات 50 مترا و100 متر كوحدات إنتاج أثاث مجمعة.. بينما يري إسماعيل أحمد "نجار" أن ارتفاع أسعار الخامات هو أكبر مايهدد صناعة الأثاث في دمياط حيث أوضح قائلا: منذ أن كنت طفلا وأنا أعمل في مهنة النجارة وقضيت فيها ما يقرب من أربعين عاماَ، فكان إنتاج الورش الصغيرة هو ما يقوم بتشغيل معارض الأثاث بالكامل، لكن ارتفاع الخامات مؤخراَ شكل فارقاَ كبيراَ مع من يمتلك ورشة محدودة، لأن حساباته في الإنتاج تكون علي قدر مستوي دخله البسيط، فتزايد أسعار الخامات يضاف لتكاليف منتجه وهو ما يؤثر علي عملية البيع. ويطالب إسماعيل بعودة دور مؤسسات الدولة مرة أخري لتدعم تلك الصناعة مثلما فعل سابقا الرئيس جمال عبدالناصر. انطلقنا بعد ذلك إلي منطقة عزب النهضة التي تضم مجموعة كبيرة من الورش الصغيرة والمتوسطة لنلتقي بمفيد أحمد صاحب إحدي الورش، الذي يعاني من إصابة عمل قديمة أثناء عمله علي ماكينة الحلية مما تسبب في بتر كف يده اليمني بالكامل، ليعتمد في صناعة الأثاث علي العمال في ورشته، حيث أوضح لنا أن اكثر من 60% من ورش دمياط الصغيرة تم إغلاقها بسبب الركود. يتابع: أحمل دبلوم صنايع، لكني لم أنتظر الوظيفة، فاعتمدت علي نفسي وافتتحت ورشتي، والآن أنا مصاب ولي حقوق لدي الدولة، التي يفترض أن تقوم بدعمي فيما يتعلق بالإعفاء الضريبي، فعندما يتم التفتيش علي الورش تقوم الضرائب باحتساب عدد البنوك (طاولات الماكينات) التي يعمل عليها العمال داخل الورشة، والقدرة التشغيلية لها، ويتغافلون حجم الإنتاج الفعلي، ما جعلني اتجه إلي صرف 21 من أصل 25 عاملاً من الورشة، لأنني غير قادر علي سداد تكاليف الضرائب والتأمينات الإجتماعية للعمال. محمد طلعت "تاجر أخشاب وأثاث" أوضح أن المسئول عن تنظيم الأسعار مابين الورشة أو المصنع وبين المستوردين، هي شعبة المستوردين في الغرفة التجارية، لكنها لم تعقد اجتماعاَ منذ أكثر من 10 سنوات علي الرغم من أنها تربط مابين الاستيراد من الخارج إلي الداخل، وفي غيابها تحكمت الفوضي في سوق الخشب. يضيف: أسعار الأخشاب ارتفعت نتيجة ازدياد أسعار الخشب عالمياَ وكذلك أسعار قطاع النقل البحري الذي يتولي نقل الأخشاب إلي مصر، وكل هذا يحمل في النهاية علي ثمن السلعة. قمنا بطرح مشاكل صناعة الأثاث علي عبدالرازق حسن رئيس جمعية تطوير قطاع الأثاث بدمياط، الذي أشار إلي أن حجم العمالة في قطاع الأثاث في دمياط يقدر ب 500 ألف عامل، أي أنها تشكل 80% من حجم العمالة في المحافظة، ويتابع: التراجع في صناعة الأثاث بدأ منذ عام 2008 جراء الأزمة الاقتصادية العالمية والتي أثرت بشكل مباشر علي المصنعين في دمياط، وعندما بدأت العملية في التحسن التدريجي لتأخذ طريقها إلي الازدهار مرة أخري، قامت ثورة 25 يناير، ومنذ بداية الثورة وحتي الآن هناك تراجع شديد جداَ في البيع، فصادرات الأثاث في دمياط انخفضت بنسبة 75%.. ويري عبدالرازق في المدينة الجديدة للأثاث بدمياط التي تم الإعلان عنها مؤخراَ مشروعاَ يمكن أن ينقذ المدينة ويضع مصر بأكملها علي خريطة العالمية لصناعة الأثاث. بينما يشيرمحمد الزيني رئيس الغرفة التجارية بدمياط إلي أن حجم صادرات الأثاث الدمياطي من الصعب تحديده، نتيجة أن الإنتاج من الأثاث هناك عبارة عن إنتاج فردي للورش، وليس إنتاجا مجمعا، وكذلك لأن من يقوم بإنتاج الأثاث لايعطي الرقم الحقيقي لإنتاجه، فدمياط بها حوالي 40 ألف ورشة أثاث مسجلة رسميا يماثلها عدد غير مسجل من الورش، لافتاَ إلي أن التصدير يتم عبر مجهودات شخصية وغير منظمة من المصانع. يضيف: الغرفة التجارية بدمياط وضعت حلولا لمواجهة مشكلة تسويق الأثاث عبر التسويق والتجارة الداخلية من خلال إقامة معارض في جميع أنحاء الجمهورية للأثاث الدمياطي، ونحن من جانبنا طالبنا وزارة التجارة والمالية والجمارك بوضع مواصفات قياسية للأثاث المستورد من الخارج لتغيير نمط استيراد الأثاث من دول شرق أسيا وعلي رأسها الأثاث الصيني لكي يتم إعطاء الأثاث الدمياطي فرصة للمنافسة المتكافئة، فالأثاث المستورد يحتل 50% من استهلاك المصري للأثاث، وهذا يهدر العملة الصعبة علي الدولة.