يحيي الرخاوي، أستاذ الطب بجامعة القاهرة، يؤكد أن ثورة 25 يناير لم تغير في طبيعة الأمراض النفسية للشعب المصري، وأن موجة التفاؤل التي سادت عقب الثورة مباشرة انقلبت إلي إحباط مع تعثر الثورة، وتأخر نتائجها الإيجابية، وذهب الرخاوي الذي يعد أحد أهم محللي الشخصية المصرية إلي أن المخزون التاريخي للشعب يسمح بالثقة في قدراته علي مغالبة لحظات التدهور، مؤكداً أنه لا يمكن الحديث عن اكتمال ثورة إلا بعد النجاح في إرساء معالم دولة مستقرة، مشدداً علي أننا مازلنا في سنة أولي سياسة لأننا لم نمارسها علي مدار 60 عاماً. كيف تقيم الشخصية المصرية بعد أربع سنوات من اندلاع ثورة 25 يناير؟ - تقييم الشخصية المصرية ليس أمراً سهلا بشكل عام، ولا ينبغي أن نفتي فيه بانطباعات عابرة أو شخصية، وتقييم الشخصية المصرية بعد أربع سنوات غير تقييمها خلال أربع سنوات، وهذا وذاك غير تقييمها خلال أربعين أو ستين سنة مضت، ثم إنه لا يوجد نمط واحد يمكن أن نجمع تحته مصطلحا باسم الشخصية المصرية، فالثقافات الفرعية، واختلاف الأعمار، واختلاف الطبقات يلزمنا أن نحذر التعميم طول الوقت، عموما فإن هذه السنوات الأربع كانت فرصة لنتعرف علي ما خفي منا، وأيضا لنكتشف قدرات لم نكن نتصور أننا نمتلكها. ما التغيرات التي شهدتها الشخصية المصرية في سنوات الثورة؟ وهل صحيح أن الثورة أخرجت أسوأ ما فينا؟ - الذي يقول إن الثورة أخرجت أسوأ ما في هذه الشخصية من طباع ينبغي ألا يتعجل الحكم، فالتغيرات تجري بسرعة يصعب ملاحقتها، وحتي الحديث عن ثورة أو ثورتين، يحتاج أن ننتظر لزمن أطول حتي تتم مراحل الثورة الحقيقية قبل أن نتكلم عن ثورات متلاحقة هكذا، لا يمكن اليقين بأن ثورة قد اكتملت إلا بالنجاح في إرساء معالم دولة مستقرة، ذات إنتاج قوي، قادرة أن تصحح أخطاء الماضي لتسهم في الحضارة الإنسانية التي يعاد تشكيلها عبر العالم رضينا أم لم نرض.. إن ما ظهر مما يسمي "أسوأ ما في الشخصية المصرية من طباع" هو أمر متوقع، وهو ثمن لا بد أن ندفعه ونحن نمر بمرحلة التفكيك التي لم تنته بعد إلي مرحلة إعادة التشكيل، لا توجد ثورة بلا ضحايا، وبناء الإنسان، وهو أمر يحتاج سنين عددا، علينا أن نتحمل مسئولية إعادة تشكيل ناسنا وإنتاجنا مستقبلا. ما الذي أثر في الوعي العام خلال سنوات الثورة؟ - حالة الوعي الجماعي الذي هو جماع عقول ووجدان وإدراك كل فرد علي حدة ثم الأمة مجتمعة، وإذا كان الوعي العام قبل أربع سنوات كان قد استسلم إلي الاكتفاء بإلقاء اللوم والتأجيل والاعتمادية والانتظار، فإن الذي نأمل أن ننميه - بعد سنوات الثورة- من كل فرد وفي كل اتجاه هو الحزم والإصرار والفعل وحمل الأمانة، مرة أخري تحت مظلة عدل مطلق، أما دور الفن فهو دور جوهري وأساسي، شريطة ألا نكتفي بفن التحريض ودغدغة المشاعر، وأن يكون الإبداع الأصيل المستمر هو الدليل علي نجاح الثورة علي طريق بناء الحضارة. كيف تفسر خروج ملايين المصريين في لحظات الاستدعاء التاريخي بصورة مبهرة ثم سرعان ما تختفي؟ - علينا أن نتذكر أن المخزون التاريخي وحده لا يكفي لتفسير غضب أمة بأكملها في وقت بذاته، طبعا المخزون التاريخي للشعب المصري يسمح بالثقة في قدراته مهما غلبت عليه علامات التدهور والنكوص في فترة بذاتها، وبالتالي فإن هذه العلاقة بالحياة وبالأرض، وقبل هذا وذاك بالله، هي المحور الجوهري الذي يمكن العثور عليه في جوهر الأفراد أو الجماعات المصرية علي اختلاف مظاهر عقائدهم وثقافتهم، لكن المتابع للتاريخ لابد أن يلاحظ أن صبر الشعب المصري يمكن أن يمتد عشرات السنين لكنه حين يفيض به الكيل، يقوم ويقلبها عاليها سافلها وليكن ما يكون. من ملاحظاتك الشخصية.. هل تغيرت طبيعة الأمراض النفسية قبل ثورة يناير وطوال سنوات الثورة؟ - أحذر تماما من وصف شعب بأكمله بأنه مصاب بالمرض النفسي الفلاني أو العلاني، فأنا أعتبر مثل ذلك وصفا بعيدا عن الدقة، وقد اعترضت مرارا علي من يصف شعبي بأنه مصاب بما أسموه "اكتئاب قومي" لمجرد غلبة الصرامة والجدية في أوقات الأزمات، كما رفضت بكل حسم الكلام عن الفصام عند مجاميع الناس لمجرد تناقض تصرفاتهم أو مواقفهم في مواجهتهم لضغوط غامضة ومربكة كل هذا ينبغي أن يتوقف فلا هو علم ولا هو مفيد. أما عن تغير طبيعة الأمراض النفسية مؤخرا فلا أنا لاحظت ولا زملائي في حدود علمي أبلغوني بمثل ذلك اللهم إلا في محتوي الضلالات مثلا أو تزييف الذاكرة بما يتماشي مع الأحداث الجديدة واللغة السياسية الجديدة، لكن يظل الفصام هو الفصام والاكتئاب هو الاكتئاب والقلق هو القلق كلمات تصف أمراضا، ولا تصف شعبا بأكمله. لماذا انتشرت الكآبة وعدم التفاؤل بعد الثورة مباشرة رغم عظمة أحداثها؟ - بعد الثورة مباشرة كان التفاؤل غالبا، لكن صاحبه الاستعجال في قطف الثمار، وعندما تأخرت عملية القطاف خصوصا فيما يتعلق بالأمان والعدل ورفع مستوي المعيشة، أصيب الكثيرون بالإحباط ، فضلا عن الآثار المترتبة علي ما أصاب هيبة الدولة من اهتزاز وما لحق بالجهاز الأمني من خلخلة واضطراب قبل أن يتعافي مؤخرا، أما علي الصعيد السياسي فلابد من الاعتراف بأننا لم نمارس السياسة بحقها منذ ستين عاما، وبالتالي فنحن ما زلنا في سنة أولي سياسة، وأننا مازلنا في سنة أولي روضة "KG1 "ولا مؤاخذة، والأزمة التي تمر بها الأحزاب الكثيرة الآن دليل علي ذلك، وعلينا ألا نلوم أصحاب النوايا الطيبة والحماسة المتوقعة لتكوين الأحزاب، ولكن علينا في نفس الوقت ألا نستعجل "سلق" تخليق الوعي السياسي حتي لا ينزل الجنين مبتسرا، النضج السياسي يحتاج وقتاً. *هل التفاؤل بالمستقبل في مصر نوع من العبث أم أن له ما يبرره علي أرض الواقع؟ - التفاؤل فريضة لمن بقي علي سطح الأرض من أحياء، ولكنني لا أقصد بالتفاؤل مجرد افتراض أن الدنيا بخير وأن الآتي أفضل، هذا يسمي التفكير الآمِل (أي الذي يقلب الأمل واقعا بمجرد التفكير فيه بغض النظر عن تنفيذه)، لكنني أقصد التفاؤل المسئول الذي يحمّل من يعلنه أو ينادي به أن يبدأ في تحقيقه الآن وفورا بدءاً بنفسه وبمن يرعاه، وهذا ممكن، بل إنه هو الآلية الدائمة والمستمرة لبناء الحضارة علي المدي الطويل، الحضارة تبدأ بحالة من اليقين بحتم الإسهام في تطوير الحياة إلي أحسن، الأمر الذي تصاحبه حالة من التقشف النفسي الجاد، وتقديس العمل، وأن يحمل كل فرد هم كل المجموع، ويواصل العمل لله وللناس بالإتقان والمثابرة طول الوقت، وبغير كل ذلك يصبح الحديث عن التفاؤل إما غفلة أو استسهالا. هل لعب الإعلام دوره التنويري أم تحول إلي جهاز لبث الشائعات والبحث عن الفضائح؟ - بصراحة هذا سؤال مهم وموجع، فأنا تصورت، وما زلت أتصور أنه علي الإعلام مسئولية تكاد تساوي مسئولية الدولة، وأحيانا أتصور أنها تفوقها، وهذا يجعل نقدنا له واجبا وينبغي أن نلاحقه باحترام وشدة في نفس الوقت، فالإعلام هو الذي يواصل تشكيل الوعي العام أولا بأول وباستمرار، وحين أقول "الوعي العام" أعني شيئا آخر غير "الرأي العام"، الوعي العام هو الذي يملأ الصناديق وأحيانا يقوم بالمظاهرات، أما الرأي العام فهو الذي يبني الحضارة ويدعم الاقتصاد ويتحمل المسئولية بل ويحافظ علي بقاء النوع البشري، الإعلام عندنا ركز طوال الأربع سنوات الماضية علي إبلاغنا ما يصله ما استطاع - وهذه ليست نهاية من مهمته، فقد غلب علي أدائه كم هائل من الإثارة والرشوة والتحريض المباشر وغير المباشر بقصد وبغير قصد، وكانت النتيجة هي البلبلة أكثر منها الشفافية؟. هناك غضب بين صفوف الشباب علي الرغم من الثورة.. لماذا؟ - أتفهم غضب الشباب، لكنني لا أعفيهم من مسئولية التعجل، وتكرار النص وكثرة الكلام، وفي نفس الوقت أنا أعذرهم فهم لم يتدربوا علي ممارسة السياسة بالمعني الحر الحقيقي، ثم إني لا أعتقد أنه يوجد إهمال بحق للشباب، بل إنني أري أن النفخ في دورهم أكثر من اللازم قد أساء إليهم أكثر منه أعطاهم حقهم، ولا أحد يمكن أن يُعطي موقعا سياسيا لمواطن لمجرد أنه صغير السن، الشباب هم الذين سوف يفرضون أنفسهم من خلال الممارسة في الحياة السياسية وغير السياسية، وعلي من يشعر أن له دورا أن يقتحم الساحة ولسوف يأخذ حقه ويثرينا.