عرض الكاتب والسيناريست، لقراءة تحليلية للدكتور يحيى الرخاوي، أستاذ الطب النفسي الشهير عن شخصية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ينتهي فيه إلى الحكم عليه بالإعدام بعد أن حمله المسئولية عن هزيمة مصر عسكريًا أمام إسرائيل في حرب يونيو 1967. ويعدد الرخاوي وفق تحليل نشره فضل على موقع "مدى مصر" لعبدالناصر أربعة صفات قال إنها أدت إلى جرائم لا غفران لها، ويرى أنه تلبس أربعة أدوار كانت تنتظر من يلبسها، هي أدوار البطل العربي الأسطوري، والاشتراكي الثوري العقائدي، والمستبد العادل، والرمز العالمي خاصة بعد بزوغ دور لدول الظل. وإلى نص التحليل: عبد الناصر هو الذي انتحر لأنه قتل نفسه في صورة عبد الحكيم عامر لماذا يعتبر البعض أن عدم شرب عبد الناصر للخمر وأكله للجبنة القريش كان ميزة تستحق الإحتفاء؟ نعم.. كان لدى عبد الناصر عقدة من كون والده "بوسطجي" عبد الناصر كان لا بد أن يكون ديكتاتورا حتى لو أراد غير ذلك وهذا هو تفسير تحويله يوم ميلاده إلى عيد للطفولة!
.................................................. في ذكرى ميلاده والميلاد الجديد لوهم المستبد العادل: تحليل نفسي لشخصية عبدالناصر يحكم عليه بالإعدام!
"كان عظيم المجد والأخطاء". يفتتح أستاذ الطب النفسي الشهير الدكتور يحيى الرخاوي تحليله النفسي لجمال عبدالناصر، بهذه العبارة التي أطلقها الكاتب الفرنسي الشهير جان لاكوتور في وصف عبد الناصر، والتي لعله استلهمها من بيت شعر للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري قال فيه "لا يَعصِمُ المجد الرجال وإنما.. كان العظيمَ المجد والأخطاء"، وهو معنى ترجمه إلى العامية عمنا أحمد فؤاد نجم في قصيدته الشهيرة (زيارة إلى ضريح جمال عبد الناصر): "عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت". على عكس تلك البداية المتسامحة، ينهي الرخاوي قراءته النفسية لعبد الناصر بشكل غاضب، حين يطرح سؤالًا عما ينبغي أن يحدث لو عاد عبدالناصر حيًا بيننا، فيجيب: "سنقول له شكرًا، وسوف نُكرِمه أشد الكرم وأبلغه على ما كان منه مما لا يمكن إنكاره، ثم سنحاكمه وسندينه في الأغلب بادئين باعترافه أنه المسئول عن نكسة 1967 جملة وتفصيلا، ومن واقع الواقع وشهادة التاريخ، فنعدمه بعد محاكمة عادلة، فشرف تاريخه يستحق ذلك، ثم سنزور قبره نستلهم خُطاه، وندعو له بالرحمة والغفران في 5 يونيو من كل عام". وبرغم قسوة هذا الحكم الذي لا يخلو من عاطفية مفرطة ومربكة، يمكن التماسها لدى كل من عاش عصر عبد الناصر سواءً أحبه أم كرهه، فإن الرخاوي يحرص على بدء دراسته بالتأكيد على أن ما يكتبه فيها ليس موقفًا للطب النفسي من عبد الناصر، كما سيحاول البعض وصفها بذلك، بل هو موقف طبيب نفسي ما من عبد الناصر، "طبيب هو مواطن أولًا، وله دراية خاصة بالنفس الإنسانية في الصحة والمرض وله في نفس الوقت دوافعه الذاتية وانتماءاته العقائدية". مضيفًا أن أكثر ما يواجه كل دارس لنفسية عبد الناصر وغيره من الزعماء العرب، تقابله مشكلة الافتقار إلى المعلومات التفصيلية الخاصة والعامة عن شخصياتهم، لأن السير الذاتية لكل زعيم تظهره إما كنبي معصوم أو كشيطان رجيم، "ومعظم المذكرات لا تفعل إلا أن تمجد كاتبها أولا "العالم ببواطن الأمور!!" ثم تقوم بعملية قص انتقائي منمق لدعم وجهة نظر محددة مسبقا، ولذلك يدعو الرخاوي قارئي دراسته إلى ألا يحملوها أكثر مما تحتمل، لأنها ليست أكثر من "حديث مواطن مشارك له ثقافة نفسية مهنية محدودة يقول رأيه في حدود المتاح من معلومات بين أيدي العامة، قرأها بما يستطيع من واقع وطنيته وذاتيته وتخصصه في آن واحد". الصفات النفسية لعبد الناصر يرى د. يحيى الرخاوي أن لجمال عبد الناصر أربعة أمجاد لا خلاف حولها هي: أولًا: تثوير حركة الجيش "وليس قيام الثورة" الذي لم يكن مجدًا فرديًا له، ثانيًا: اختراق الوصاية الأجنبية بتأميم قناة السويس "وليس بإخراج الإنجليز" من مصر كما يفهم البعض لأن ذلك أيضًا لم يكن مجدًا فرديًا له بل كان نتيجة نضالات شعبية متواصلة، ثالثًا: الرؤية المستقبلية من منطق إنتاجي متمثلة في السد العالي، رابعًا: تغيير البنية الاجتماعية "ليس فقط بالإصلاح الزراعي". لكنه في نفس الوقت يعتقد أن داخل عبد الناصر أربعة صفات أدت إلى جرائم لا غفران لها هي: 1 الجُبن: أمام تصور احتمال ثورة عسكرية جديدة "وهو ما أدى إلى تحمل خطايا صديقه المشير عامر". 2 الكذب: بإعلان الهزيمة انتصارا "مضايق تيران 1956". 3 الهرب: الذي دفعه لإعلان قرار الانسحاب في هزيمة 67. 4 القهر والتسلط: وهو ما دفعه لإهدار القانون وسحق الحريات. ويرى الرخاوي أيضا أن عبد الناصر تلبس أربعة أدوار كانت تنتظر من يلبسها، هي أدوار البطل العربي الأسطوري، والاشتراكي الثوري العقائدي، والمستبد العادل، والرمز العالمي خاصة بعد بزوغ دور لدول الظل. يعتقد الرخاوي بعد تحليله لشخصية عبد الناصر أنه يمتلك عدة صفات متلازمة وإن كانت متناقضة في كثير من جوانبها، ويحددها كالآتي: 1. الشجاعة، وخاصة قبيل الحدث وبعده لا أثناءه. 2. الانسحاب، وخاصة تحت عنوان الحرص على مصلحة الناس. 3. العطف، وخاصة من موقعه "من فوق" كرئيس. 4. القسوة. 5. الصداقة، وخاصة ردًا للجميل. 6. الثللية أو الشللية، وخاصة اتقاءً للخيانة. 7. الجهل، وخاصة في التاريخ والاقتصاد. 8. العناد، وخاصة أمام جرح الكرامة. 9. الانهيار، وخاصة عند المفاجأة. 10. الأمانة، وخاصة في مجال رفض النفع الشخصي. 11. الكرم، وخاصة من مال الدولة عبر منح "الهِبات". 12. المناورة، وخاصة إذا تصور أن ذلك لتحقيق المصالح العامة. 13. الصلف، وخاصة حين يقدر بعد الجرح. 14. البذاءة، وخاصة حين يُستثار. 15. الاستهواء أو القابلية للإيحاء من الغير، وخاصة حين يعاشر الأذكياء الخبثاء. 16. الايحاء للغير، وخاصة حين يخاطب البسطاء. 17. المثابرة، وخاصة حين يتوقف الآخرون. 18. الانفراد بالقرار، وخاصة إذا سبق صدق حدسه في خطبة قريبة. ويعاود الرخاوي تذكير قارئه بأن تحديده لتلك الصفات المتلازمة والمتناقضة في الوقت نفسه، يأتي في حدود المعلومات المتاحة لمواطن مثله وأنه مستعد لتغيير كل أراءه إذا حصل على معلومات أصدق تثبت العكس، يجدر الذكر هنا بأنني منذ أن اطلعت على هذه الدراسة عام 1997، لم أجد دراسة أخرى للدكتور الرخاوي يعلن فيها عن ورود معلومات جديدة إليه تجعله يغير ما كتبه فيها، وأرجو أن يبادر إلى تنبيهي من تقع في يده دراسة له بها مراجعة لأفكاره. عقدة ابن البوسطجي يختار الدكتور الرخاوي دخول عش الدبابير برغم إدراكه لما سيتلقاه من شتائم من مريدي عبد الناصر ومحبيه، حين يقرر ألا يتعامل باستخفاف مع ما كتبه بعض خصوم عبد الناصر عن وجود عقدة لدى عبد الناصر من مهنة والده البوسطجي، لكنه لا يتخذ من مهنة الوالد سبيلًا للمعايرة بذلك الشكل الدنيء الذي قام به بعض الكتاب الكبار من خصوم عبد الناصر، بل يقوم برصد تأثير النظرة الطبقية المتعالية التي كانت سائدة في ذلك العصر على شخصية عبد الناصر، فيرى أن تلك المهنة "ربما تكون قد أثرت على تكوين عبد الناصر نفسيا"، مع ملاحظة أن الأمر لا علاقة له بما ندعو إليه من تقدير لكل المهن الشريفة، لأن ذلك أمر منفصل تمامًا عن الشكل الاجتماعي الذي كانت تعامل به هذه المهنة خلال طفولة عبد الناصر، وما يمكن أن يكون قد خلفه من آثار نفسية عليه لا يمكن استبعادها علميًا حين قراءته نفسيا، خاصة كما يقول الرخاوي أن تلك المهنة كانت تستدعي تنقل والده عبر أكثر من قرية ومدينة، وكان من المتعارف عليه في ذلك الوقت أن يتلقى هدايا من أعيان القرية أو المدينة الصغيرة التي يعمل فيها خصوصًا خلال المواسم والأعياد، وهو ما يرى الرخاوي أنه "قد يُحدث نوعا من الذل الخفي الذي قد يعاني منه البوسطجي وبشكل أكثر خفاءً أولاد البوسطجي دون أن يدرك أي منهم ذلك، برغم أن إرسال الهدايا والإكراميات لا يعتبر إهانة من جانب المرسل بل يعتبر واجبًا وتكريمًا، إلا أنه من جانب المتلقي يعامل بشكل مختلف، فالناس يعتقدون أن صعوبة العطاء أشد من صعوبة الأخذ، وهذا خطأ فسيكولوجية الأخذ مسألة مركبة تحتاج إلى استعداد خاص ووعي خاص، فقد يكون الأخذ حرًا وطيبًا، إذا كان متبادلًا بين أقران والرد فيه ممكنًا، وفيما عدا ذلك قد يكون في الأخذ تنازل ومذلة". لذلك يرى يحيى الرخاوي أنه "إذا كان هناك احتمال لوجود آثار نفسية قديمة خلفتها نشأة عبد الناصر، فلا يمكن أن تكون هذه الآثار ناتجة عن الفقر، لأن من كان في مثل مهنة أبيه لا يعد فقيرًا بمقاييس العشرينات والثلاثينات، كما أنها ليست من آثار شعوره بكدح الفلاحين من أقاربه الأجراء فلم يثبت وجود صلات قوية له بهم، وإنما ستكون تلك الآثار مرتبطة بالوضع الاجتماعي لوالده "وضع الأخذ دون مساواة ودون احتمال رد، ويتضاعف ذلك حين يدرك الطفل أن هذه العطايا أصبحت تمثل دخلًا ثابتا للأسرة يعتمد عليه فعلا، ينتظر في توقيت بذاته، ويخفف من مصروف بذاته، وأن المقابل الذي يدفعه الوالد هو انحناء سري أو كَسرة نفس أو انخفاض صوت". ثمة نقطة إيجابية تتعلق بنشأة عبد الناصر، يذكرها الرخاوي حين يرى أن انتماء عبد الناصر إلي قرية "بني مر" في الصعيد لم يكن له تأثير مباشر عليه، لأن ظروف عمل والده وانتقاله من مكان إلى مكان تجعل أولاده يرتبطون أكثر بالإنسان لا بالمكان، ولذلك فقد جاء ارتباط عبد الناصر من البداية بالناس، أكثر من ارتباطه بالمكان والعرق. ولعل هذا يفسر الحكاية الشهيرة التي يرويها عم عبد الناصر عن رفض عبد الناصر طلب تقدم به والده كمندوب عن أهل قريته "بني مر"، وكيف أنه في واقعة أخرى أخرج أهله من أراض للدولة أخذوها بوضع اليد ولم يشفع لهم عنده انتماؤه الأسري والقبلي والعرقي لهم، وهو الانتماء الذي يكون قويا في العادة لكل من يتربي وينشأ في صعيد مصر، ولذلك كان تأثير انفصال عبد الناصر عن خلفيته المناطقية إيجابيًا جدًا. عبء الشعور بالخديعة يحلل الدكتور يحيى الرخاوي واقعة تُروى عن عبد الناصر قبل تشكيله لتنظيم الضباط الأحرار، وكيف أنه فكر في مقاومة الاحتلال بتدبير عملية اغتيال، ولكن العملية فشلت وأصابت شخصا آخر. مؤكدا أن للاحتلال فضلا على جيل عبد الناصر وأقرانه لتنميته مشاعرهم الوطنية، لكنه يرى أن "ما قام به عبد الناصر كان تفكيرا شائعا في جيله، ولا يمكن أن يكون علامة مميزة على ميلاد بطل قادم أو إرهاصا بمولد زعيم، لكننا تعودنا حين يولد البطل ونبحث في دفاتره القديمة أن نقلب ما هو عادي إلى ما هو خارق ولا يكون ذلك في صالح البطل أو صالح الحقيقة. أما عن تكون شعور بالذنب لديه بسبب إصابته لشخص آخر. فهو أمر يستوجب تأكيد حدوث الواقعة التي لا تزال حتى الآن غير مؤكدة". وفي قراءته لاشتراك عبد الناصر في حرب 1948 وخوضه تجربة الحصار المريرة في الفالوجا، يرى الرخاوي أن حرب 48 كانت علامة هامة في تطور عبد الناصر النفسي فقد شهد فيها عبد الناصر تمامًا كما شهد في حرب 67 بعد ذلك نفس الشعور بالخديعة ونفس ألم مواجهة الواقع المر، وإذا كانت الثورة والقيام بها كانت نتيجة إيجابية لأثر حرب 48 في نفس عبد الناصر، فإن لهذه الحرب آثارا سلبية ظلت مع عبد الناصر فترة طويلة، يمكن أن تكون مسؤولة نسبيا بشكل أو بآخر عن تنازلاته في حرب 1956 ثم هزيمة 1967. وعند قراءته في تفاصيل تشكيل عبد الناصر لتنظيم الضباط الأحرار يعود الرخاوي للتحذير من استخدام أفعل التفضيل والنعوت الضخمة التي تظهر بأثر رجعي، مؤكدًا على أن التاريخ الذي يكتب بعد ظهور البطل أو انتصاره قد يكون وجهًا مختلفًا تمامًا، عن الذي كان يمكن أن يكتب لو أن البطل لم يظهر أو لم ينتصر أو انهزم، ومن ثم فلا داعي لتفضيل عبد الناصر على غيره الذي حاولوا تشكيل تنظيمات لتغيير الأوضاع ثم خذلتهم الظروف، وأن ما يحسب لعبد الناصر هو أنه بعد نجاح "الحركة المباركة" كما كان يطلق عليها في البداية، قاد تحويلها إلى ثورة اجتماعية بوجه خاص وتحريرية بدرجة أقل. لماذا لم يسرق؟ عندما يقوم د. يحيى الرخاوي بالتعقيب على صفات عبد الناصر التي تناقلها معاصروه عنه، يتوقف طويلا أمام صفة النزاهة التي عرف بها عبد الناصر وكيف أنه لم تمتد يده للمال العام ومات مديونًا بلا رصيد في البنوك ولا يملك أقساط منزله، ومع أنه يعترف بصحة تلك الصفات إلا أنه يقلل من أهميتها قائلا أن سر انبهارنا بها "هو أن التدهور الأخلاقي المعاصر جعلنا نعتبر بديهيات الأخلاق مميزات فريدة للزعامة وأن الأصل في الإنسان أن يكون أمينا ونزيها"، ثم يتساءل الرخاوي عما كان يفعله عبد الحكيم عامر في الجيش المصري، حيث كاد الأمر أن يصل إلى تسجيل الجيش المصري باسمه في الشهر العقاري حفاظًا علي تأمين جانبه، "أليس هذا سرقة للمال العام وللجيش العام ولثورة الشعب جميعها؟"، هكذا يسأل الرخاوي قبل أن يضيف: "إن عبد الناصر رحمه الله قد كان تقمص الدولة والسلطة والبلد. حتى أصبح نفسيًا على الأقل هو النظام، فهل يسرق نفسه من نفسه ليؤمن نفسه؟!". يستطرد الرخاوي في الحديث عن قضية الخلط بين المال العام والمال الخاص والتي كانت قائمة قبل عبد الناصر، وظلت قائمة بعده، كتقليد من تقاليد المجتمع القبلي، ضاربًا أمثلة بما أصبح يعرف باللفتات السنية أو الهبات الملكية والرئاسية، ويقدم مثلًا ساخرًا لنزاهة الرئيس معمر القذافي التي لا يشك فيها، "لكن هذه النزاهة لا تنفي حريته في التصرف في مال الدولة من أيرلندا إلي تشاد وربما من كولومبيا إلي ايران أو ميت غمر". ثم يتوقف الرخاوي عند مجموعة من الصفات المرتبطة بعبد الناصر، والتي ترد دائما في معرض مدحه والثناء عليه، مثل أنه لم يكن يعاقر الخمر ولم يكن يعاشر النساء وأنه كان يأكل الجبنة القريش والزيتون، وهو يرى في ذكر هذا الصفات "خلطًا للأوراق فنحن لسنا بصدد التقييم الأخلاقي وإعطاء صكوك الغفران الدينية، بل نحاول قراءة التاريخ، واحترام قيم المجتمع ونواهي الدين، يُحمد لأي زعيم لكنه لا ينبغي أن يكون تقييمًا لزعامته، فلم يضر تشرشل أو يقلل من وطنيته أنه كان يشرب الخمر حتى الثمالة، والحديث عن عدم شرب عبد الناصر للخمور أو تناول السادات للفودكا أو الزعم بأن عبد الناصر كان ملحدًا، كل هذه الأحكام جميعًا لا تصف عبد الناصر أو السادات بل تصف تخلف قائلها ولا تدل على موقف متدين بل تؤكد سطحية المواقف واستسهال إصدار الأحكام". يضيف الرخاوي قائلًا "ثم إن عبد الناصر لم تكن له خليلات، لكنه سكت عن خليلات أصحاب وزملاء له، تركهم يشغلون مواقع أخطر ومراكز قوى طول الوقت، ولو كنا نتكلم عن مبدأ العفة فهو مبدأ لا يتجزأ، والطهارة الذاتية لا تسمح بأن يستشري ضدها ولأن عبد الناصر كان رجلا عصريا لا يتدخل في الشئون الشخصية باعتبار أنها لا تعيب صاحبها، لذلك فعدم معاشرته للنساء في الحرام موقف شخصي ومزاج خاص وليس فضيلة وطنية. كذلك الحديث عن أكله للجبنة القريش لا يعني شيئا، فقد فرحنا لأن أعضاء مجلس قيادة الثورة سهروا حتى الفجر في اجتماع وذهب أحدهم ليشتري سندوتشات فول وطعمية، ثم تطور الأمر بعد ذلك وتغير مزاج وطعام وسهرات أغلب هؤلاء وأولادهم ونسائهم في حياتهم وبعد مماتهم". ويرى الدكتور الرخاوي أننا لا يجب أن نحاسب عبد الناصر عما آل إليه حال بعض أولاده وبناته، لكنه يستدرك قائلا "وإن كان الأغلب الغالب أنه مسؤول ضمنا، فما ينضح إناء، إن عاجلا أو آجلا، إلا بما ألقى فيه شعوريا أو لا شعوريا، ولذلك لا يجب أن نقف لنقرأ التاريخ من طبيعة مأكل أو مسكن زعيم، فخيمة القذافي ليست هي رمز إحياء الحضارة العربية، وجبن عبد الناصر القريش ليس هو الحل الاقتصادي المتقشف لمصر خاصة مع ارتباطه بحالته المرضية، وعباءة السادات وعصاته ليست هى الدالة على ارتباطه بعيشة الفلاح المتهني قلبه والمرتاح". رؤية نفسية لناصر وعامر من أهم الأجزاء في القراءة النفسية لملف عبد الناصر والتي يقدمها الرخاوي، تحليله لعلاقة عبد الناصر بصديق عمره ورفيق سلاحه عبد الحكيم عامر، حيث يبدأ حديثه قائلا: "آه، جاء وقت أقسى الكلام فلا مفر"، ثم بعدها يؤكد أنه من المستحيل تقييم شخصية عبد الناصر وأفعاله دون عبد الحكيم عامر، والعكس صحيح، وهو يرى أن العلاقة بينهما لم تكن مجرد صداقة و"جدعنة"، وإنما كانت تكاملا سريا لا شعوريا أقرب إلى التوحد، حيث يقوم كل منهما بما ينقص الآخر دون أن يدري، معربا عن اعتقاده أن عبد الحكيم عامر كان من الناحية النفسية والشخصية أكثر تماسكا رغم ظهور العكس، في حين أن عبد الناصر من الناحية النفسية والشخصية كان أكثر اهتزازا رغم ظهور العكس، كذلك كان عبد الناصر ملتزما في الجوانب الأخلاقية والنسائية والمزاجية، لكن عامر كان "يقوم بالواجب في الناحية الأخرى بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن صديقه اللدود". يستخدم الرخاوي وصفا خاصا هنا، حين يرى أن عبد الناصر كان "سهل التشريط"، ولذلك فهو يربط دائما ما هو جيش بما هو انقلاب (من خلال تجربته في 52)، وقد ظل هذا التشريط يعمل لديه خفية دون أن يدري حتى مات، ولذلك كان كلما اقترب من الجيش خاف من "حركة" تباغته دون حسابات دقيقة تماما مثلما فعل هو، لذلك كان يلجئه خوفه هذا إلى التمسك بعبد الحكيم أكثر فأكثر، ولا شك أنه كان يحب عبد الحكيم حبا صادقا، فقد كان بالنسبة له هو الحماية أو الوالد النفسي، وكان هو الوجه الآخر لذاته ولملذاته أو الطفل النفسي، وكان أيضا القرين أو "المُسقط النفسي للذات الظاهرة"، وظل عبد الحكيم يقوم بما لا يقدر عليه عبد الناصر، وبما لا يريد أن يراه عبد الناصر في نفسه، وبما لا يجرؤ عليه عبد الناصر، وبما يرفضه عبد الناصر، ومن هنا ظهر التناقض وكثر التساؤل وفي نفس الوقت توثقت العلاقة حتي الموت. يدخل الدكتور الرخاوي مجددا منطقة شائكة، حين يقدم قراءة سيكولوجية جنائية إن صح التعبير لمصرع عبد الحكيم عامر يضع فيها سيناريو متخيلا لما حدث، مؤكدا دون الإشارة إلى مصدر رأيه أن هناك من وضع حبوب سامة في نفس علبة الحبوب المنبهة، التي كان عامر يستخدمها للإفاقة من المخدرات التي يقول أنه "لم يكن يفيق منها إلا نادرا خاصة إذا جاءه زائر ما"، مضيفا أن عبد الناصر أجرى بداخله محاكمة عسكرية لقائد قواته، وأثبت عليه الإهمال المساوي للخيانة العظمى وأصدر حكما باعدامه ونفذه، خاتما ما يصفه "حدسه الخاص" بالتأكيد على أن رحيل عبد الحكيم عامر كان حادث انتحار فعلا، ولكن لعبد الناصر الذي انتحر حين "نحر" صديقه، إذ قتل صورته الأخرى المتمثلة في عبد الحكيم، وأن ما حدث كان فرصة ولادة جديدة لعبد الناصر بعد أن تخلص من عبد الناصر الآخر "عامر"، وأن عبد الناصر تخلص من كثير من ضعفه وجبنه بإقدامه على قرار الانتحار هذا، ولذلك كانت حرب الاستنزاف أول حرب حقيقية يدخلها، وكانت مبادرة روجرز أول سلام حقيقي يجرؤ على التقدم إليه. هل كان ديكتاتورا؟ يجيب الدكتور يحيى الرخاوي على هذا السؤال الذي كان البعض يطرحه وقتها بجدية، وإن كانت الأيام قد حولته إلى سؤال مضحك للأجيال التالية، بقوله: "وهل يمكن ألا يكون عبد الناصر كذلك حتى لو أراد غير ذلك، إننا نصنع من الشخص العادي والأقل من العادي فرعونا، فكيف يمكن أن يهرب منا مثل عبد الناصر، وهو الأكثر احتياجا لذلك، فمن الناحية الشخصية عناده وغروره ليس لهما نهاية، ومن الناحية الموضوعية كانت البلد أحوج ما تكون إلى قفزة سريعة ضد القوانين والمألوف، ولا وقت للاختلاف ومحاولات الاقناع، وهو ما يستدعي ظهور الدكتاتور. لكن الجانب الشخصي والجوع إلى السلطة ونشوة الاختراق، حين يتمتع برؤية أفكاره الشخصية وهي تتحول إلى قوانين عامة غير مكتوبة، ثم يرى عظمة التسامي وهو يصبح خدمة عامة ومنحة اشتراكية، كل هذا لا بد أن يجعله يتمادى ليقوم عن الشعب بكل العمل، ويصبح ديكتاتورا حانيا ولكن حنوا قاسيا مذلا". فيما يتصل بهذه النقطة يناقش الدكتور الرخاوي الميزة التي تنسب لعبد الناصر في أنه لم يحتفل بعيد ميلاده، فيرى بأن عبد الناصر لم يمانع أن يكون 15 يناير يوم مولده هو عيد الطفولة شخصيًا، وهو ما يمكن أن يفسره مادحوه بقولهم أنه رضي أن يكون ممثلا للناس في بلده، فأصبح يوم مولده هو عيد الطفولة. أما من يريد الذم فيستنتج أنه قد احتوى الوطن في ذاته، ويمكن أن يُستشهد هنا بصيحته الشهيرة عند محاولة اغتياله في المنشية "كلكم جمال عبد الناصر" وهو دليل على أن ذاته هي التي تملأ وعيه وليس مصر، مما يطرح أسئلة مهمة هي "هل ذاب عبد الناصر أو أي زعيم في وطنه؟ أم أنه التهم وطنه؟ هل تقمص الوطن فأصبح لا كيان له إلا فيه؟ أم أنه حل محل وطنه فأصبح وجوده الذاتي هو الوطن وكرامته الذاتية هي الوطن؟"، مجيبا بأنه يعتقد أن الذات قد التهمت الوطن وليس العكس، عند عبد الناصر وعند السادات على حد سواء. يبقى في ختام هذا العرض لقراءة الرخاوي النفسية لملف جمال عبد الناصر، أن أشير إلى مناقشة مهمة قام بها لعبارة "عظيم المجد وعظيم الأخطاء" التي افتتح بها قراءته النفسية، فهو ينتقد تلك العبارة بشدة، معتبرا أنها موقف تسوياتي يشبه ما نكرره دائما من حديث سطحي حول أن كل إنسان يخطئ ويصيب، وأن كل ثورة لها وعليها، إلى آخر هذا الكلام الذي يصلح لمن يشتري كيلو جوافة، معتبرا أن الحكم على ثورة يوليو لا يمكن أن يكون بما انتوته أو همت به، بل بما آلت إليه، لأن الخطأ الأخير قد يكون أحيانا المفسر الحقيقي للخطوات الأولى التي كانت واعدة وغامضة، "وإلا كنا كمن يعدد أفضال والد على بنيه فنقول إنه رباهم وكفل لهم المأوي والغذاء والحلم والترويح. ثم قام بوضع السم في طعامهم ليرحمهم من قسوة الزمان فماتوا جميعا.. فالمسألة ليست مسألة عدد من الأخطاء مقابل عدد من الانجازات، نحن لا نلعب لعبة النيشان ونعد الإصابات الخاطئة من الإصابات الصحيحة، إن بندقية التاريخ دائما مليئة بالرصاص، وخطأ واحد قد يقضي على الناس، فيغير المسار ويتراجع بالتاريخ". كان هذا ما قاله الدكتور يحيى الرخاوي في قراءته النفسية لجمال عبد الناصر، فما الذي يمكن أن يقال في قراءة نسخته الباهتة المشوهة التي تحمل اسم عبد الفتاح السيسي، وما الذي يمكن أن يقال عن الراغبين في استنساخ خطايا عبد الناصر آملين في الوصول عبرها إلى إنجازات لعبد الفتاح، مع أن تلك الخطايا كانت السبب الأكيد في القضاء على إنجازات جمال عبد الناصر، وستكون سببا في منع حدوث أي نهضة حقيقية أو تنمية فعلية، مهما ظن كل عباد الله وكل عبيد الدولة غير ذلك.