لسيناريو ضياع الطين المصري الذي بدأته "آخرساعة" قبل أسبوعين تحت عنوان "1000 فدان تزرع الأمراض" في محافظة المنوفية، نواصل في هذا العدد كشف مزيد من مشاكل المزارعين الذين يعانون ندرة مياه الري، ويضطرون إلي سقي الأراضي بمياه الصرف الصحي، وهذه المرة تأتي الفاجعة من محافظة الشرقية التي رصدنا فيها معاناة الفلاحين في البحث عن المياه والأسمدة، بل إن البعض يشتري المياه من مواسير الارتوازي "ماكينات رفع المياه الجوفية" مقابل 20 جنيها في الساعة.. التفاصيل في السياق. تكلفة زراعة فدان القمح 10 آلاف جنيه وإنتاجه يُباع ب 6 آلاف مطالبات بتطهير "بحر الخليلي" من المخلفات المزارعون: 20 جنيها سعر المياه الارتوازية في الساعة والمحاصيل تموت العطش يحاصر آلاف الأفدنة الزراعية في الطريق إلي محافظة الشرقية (شمال القاهرة) لم أكن أتصور أن ثمة معاناة أكبر من تلك التي رصدتها عدسة "آخرساعة" قبل أسبوعين في محافظة المنوفية، لكن يبدو أن حال الفلاحين واحد في كل مكان، وعلي الرغم من تعدد مشكلات المزارعين في مناطق مختلفة إلا أن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو مشكلة ندرة مياه النيل المخصصة للري بل وانعدامها في أحيان كثيرة بما يهدد آلاف الأفدنة بالجفاف والبوار. كانت الساعات الأولي من صباح الجمعة الماضية حين انطلقنا بالسيارة قاصدين قرية "شبرا العنب" التابعة لمركز منيا القمح" في الشرقية. بعد حوالي 90 دقيقة كنا وسط الفلاحين في الأرض. كان الملمح الرئيس واحداً: لا أحد يبتسم.. فقط وجوه متجهمة حزينة، وحتي حين تحاول بث الأمل في نفوس بعضهم مثلما قلت لأحد المزارعين: "أنا بأعمل تحقيق عن مشاكل الفلاحين في الشرقية وإن شاء الله مشاكلكم تتحل"، نظر إليّ وقال ساخراً: "مشاكل الري في كل مكان في مصر.. المية (المياه) ناقصة وأحياناً مش بتوصل لنا نهائي.. زرعنا بيموت.. تخيلوا الشرقية بلد الكرم أرضها عطشانة". هكذا كانت صدمتي الأولي وظننت أن هذه المشكلة تواجه المزارعين البسطاء فقط، ممن لا يقدرون علي سد عطش أراضيهم للماء، بل يبدو أن الحال المأساوية تطال الجميع بمن فيهم وجهاء القرية، ومن بينهم الحاج محمد مهنا الذي فاجأنا بأن بعض المقتدرين يضطرون - نتيجة عدم وصول مياه الري النظيفة - إلي دق مواسير ارتوازية لسحب المياه الجوفية واستخدامها في الري، بينما يضطر آخرون إلي شراء المياه من هذه المواسير التي يتكلف دقها حوالي 30 ألف جنيه، مقابل 20 جنيها عن كل ساعة. يقول محمد مهنا: مأساة شُح المياه وانعدام وجودها لا تواجه قريتنا فقط بل تداهم قري عديدة في الشرقية. زمام قريتنا وحدها يضم نحو خمسة آلاف فدان مهددة بالموت والجفاف والبوار، موضحاً: مشاكلنا هنا متنوعة، منها ارتفاع أجر العمالة، فيومية العامل وصلت إلي 100 جنيه وفترة عمله في الأرض لا تتجاوز الأربع ساعات، وكذا فإن ماكينات الحرث وتجهيز الأرض الموجودة في المحطة الزراعية معظمها معطل ويحتاج إلي صيانة أو جلب ماكينات جديدة بدلاً من تلك التي عفي عليها الزمن. يتابع: نضطر إلي استئجار ماكينات علي نفقتنا الخاصة، فعملية حرث الفدان الواحد تكلفنا في هذه الحالة 300 جنيه، ومع انتهاء تجهيز الأرض تصل تكلفة الفدان إلي حوالي ألف جنيه، أما مشكلة المياه فهي الأخطر علي الإطلاق، فالمفترض أننا نعتمد علي المياه البحاري (مياه النيل) من بحر الخليلي المتفرع من شبين القناطر، لكن نظراً لنقص المياه فإنها لا تصل إلينا في أحيان كثيرة.. ربما تظهر لمدة ساعة واحدة خلال الشهر، بسبب عدم تطهير الترع من المخلفات التي تسد الترع وتعوق وصول المياه إلينا. وحتي الماكينات الارتوازية لا تجدي في كل الأحوال، ففي فصل الصيف تكون المشكلة أكبر حيث تنعدم المياه البحاري ومعها تجف المياه في جوف الأرض، ولا يجد الفلاح أمامه سوي ري أرضه من المصارف المخصصة للصرف الصحي، والتي بكل تأكيد تنقل عشرات الأمراض إلي المحاصيل والحيوانات التي ترعي فيها، وتهدد صحة الإنسان الذي يتناول هذه المحاصيل بأمراض مزمنة مثل السرطان والفشل الكلوي وفيروس سي وغيرها. ويفسر بعض الفلاحين عمليات بيع المياه الجوفية من مواسير الارتوازي، بأن البديل الطبيعي المتمثل في المياه البحاري غير متوافر، أما ارتفاع تكلفة ساعة الري بهذه الطريقة فيرجع أيضاً إلي ارتفاع سعر السولار الذي تعمل به ماكينات الشفط التي يتم تركيبها علي الماسورة، حيث يتم شراء لتر السولار من السوق السوداء ب2.5 جنيه، لذا فالجميع يواجه مشكلة ندرة المياه سواء أصحاب الحيازات الكبيرة أو الصغيرة. نتحرك بالسيارة بمحاذاة قطع شاسعة من الأرض الحزينة التي تشقق بعضها من فرط العطش، وبدت محاصيل البعض الآخر ذابلة بين برسيم وقمح وذرة وخضراوات. وفي كل مرة نتوقف عندها نجد مجموعة من المزارعين لديهم شكاوي لا تنتهي. أحدهم قال: "اشتكينا كتير في مديرية الري وطلبنا تطهير الترع من أكوام الزبالة العالقة فيها لتسهيل وصول المياه إلينا ولكن لا أحد يستجيب، كما أن الجمعيات الزراعية لا يتوافر فيها سوي أكثر أنواع السماد الكيماوي رداءة وبأسعار مرتفعة.. لا أحد ينظر إلينا". وبينما كان منهمكاً في العمل، يترك زميله الفأس ويشاركنا الحديث: سعر شيكارة الكيماوي في الجمعية الزراعية من 70 إلي 100 جنيه، وقد تصل في السوق السوداء إلي 200 جنيه، والفلاح البسيط لا يقدر علي هذه التكلفة العالية، مفجراً مفاجأة مفادها أن تكلفة فدان القمح بتجهيز الأرض والعمالة والحصاد والدرس والمياه تصل إلي حوالي 10 آلاف جنيه، لكنه لا يحقق في النهاية سوي 6 أو 7 آلاف جنيه، ما يحقق خسائر فادحة للفلاح، والأمر نفسه يحدث مع باقي المحاصيل مثل الأرز الذي يتكلف الفدان منه 5 إلي 6 آلاف جنيه وينتج محصولاً يقدر بحوالي 2طن بحوالي أربعة آلاف جنيه. وبينما كنا نتحرك قرب إحدي الترع التي تفوح منها روائح كريهة وتعلق بها كميات هائلة من القمامة، مر من جوارنا فلاح فقير يمتطي حماراً هزيلاً سألناه عن مشاكله فقال: "الجمعية الزراعية تقوم بدورها علي أكمل وجه فيما يتعلق بتوزيع الكيماوي علي الفلاحين بواقع 3 شيكارة لكل فدان لكن مشكلتنا الأساسية في عدم وجود مياه للري وفي الصيف مع زيادة الأزمة نضطر إلي سقي الأرض بمياه الصرف الصحي". الرائحة الكريهة كان مصدرها مساحة كبيرة في بحر الخليلي عند قرية "السعديين" وهذا الرافد يمتد من منبعه الرئيس في شبين القناطر ومنه إلي مركز منيا القمح وينتهي عند قرية "ميت جابر" في منطقة بلبيس، لكن تراكم القمامة يعوق وصول المياه إلي مناطق عدة في مسار هذا الرافد، لذا يطالب الفلاحون بضرورة تطهير بحر الخليلي من القمامة ومخلفات البناء مرة علي الأقل كل موسم. لحظات وانضم إلينا مزارع آخر وألقي الضوء حول مشكلة أخري: "المشكلة في عدم قيام الحكومة بشراء المحصول مما يضطر الفلاح لبيعه للتجار بنصف القيمة التي تحددها الحكومة، بسبب عدم وجود محطات تجميع (شونة) للمحاصيل، مشيراً إلي أن الفلاح يخسر كثيراً في بعض الزراعات مثل القطن الذي لجأ بعض الفلاحين العام الماضي إلي حرقه في الأرض نظراً إلي ارتفاع تكلفة زراعته وعدم تناسب سعر القنطار مع ذلك الذي حددته الحكومة وقتذاك، كما أن هناك مشاكل أخري تواجه زراعة القطن أهمها عدم توافر البذور الجيدة في الجمعيات الزراعية، فالبذور غير الصالحة تؤدي إلي ضعف الإنتاجية وبالتالي خسارة كبيرة للفلاح. عفيفي زغابة أحد المزارعين الذين يعانون من مشاكل الري قال إن كثيرا من الشباب في قريتنا والقري المجاورة ومنها قرية "سنهوا" هجروا الأرض وبدأوا يهتمون بمشروع آخر هو بناء مزارع الدواجن علي الأراضي الزراعية، فهي بالنسبة لهم مضمونة العائد مقارنة بالعمل في الزراعة التي لا تتوقف مشاكلها، فالشباب يعاني من البطالة ويبحث عن فرصة عمل وبما أن الأرض لم تعد تجدي فكثير من الشباب يلجأ لتربية الدواجن والأرانب في مزارع صغيرة تنتشر في كل مكان بالمحافظة .