دين جديد انتشر وترعرع . ازدهرت دعوات الحرية والديمقراطية في مقابل دول القمع والديكتاتورية، وكانت نقطة الفصل انهيار سور برلين الذي تبعه سقوط الاتحاد السوفيتي بأفكاره الشمولية وانتشار أوسع للديمقراطية. ورغم تباين الآراء حول ما إذا كان العالم قد صار مكاناً أفضل أو أسوأ بعد هذا التاريخ، فإن الصورة ليست قاتمة بل علي العكس مبشرة بعالم أكثر رفاهية وسلاماً وحرية، طبقاً لنبوءة من البروفيسور الأمريكي ذي الأصول اليابانية "فرانسيس فوكوياما". لم يسر شيء كما كان مخططاً له، كان ذلك منذ 25 عاماً، حينما انهار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي، وأصبح ماركس والشيوعية والشيوعيون في عداد الأموات، ولكن شخصاً واحداً فقط توقع كل هذا قبل حدوثه، «فرانسيس فوكوياما» في مقال بعنوان «نهاية التاريخ»، نشرته النيويورك تايمز في الأول من يونيو عام 1989، أي قبل سقوط جدار برلين بخمسة أشهر و9 أيام، وكان الرجل تنبأ في مقاله بعالم القطب الأوحد وكوكب يتوجه نحو اقتصاد حر وديموقراطية ليبرالية، ونمط حياة أقرب للرفاهية الدنماركية. غير أن تلك العولمة ذات السعادة الزائفة لم يكن لها وجود كما تمناها الغربيون، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحرمهم من نوم مريح، ويصر علي شن حرب باردة تمنع واشنطن وحلفاءها من الشعور بأنهم وحدهم أصحاب الحق في التحكم في مصير العالم، وسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة أدت لظهور فاشية أصولية لا تتوقف عن ارتكاب جرائم إنسانية في العراق وسوريا وليبيا، والرئيس الصيني «زي جينبينج» يبدو مهووساً بلعب دور «ماوتسي تونج» وقرر أن يحكم بمزيد من الاستبداد، وكثير من الصرامة مع الولاياتالمتحدة. فرانسيس فوكوياما ذو الأصول اليابانية، قرر العودة إلي نبوءته في مقال بجريدة «وول ستريت جورنال» استناداً إلي بحث من 658 صفحة، يحمل توقيعه ونشره معهد بروكينجز للدراسات السياسية، بعنوان «النظام والانحطاط السياسي.. من الثورة الصناعية إلي العولمة الديموقراطية». وبحسب فوكوياما فإن الصورة ليست قاتمة بشكل كبير، فمن السبعينيات وحتي الأزمة المالية العالمية في 2008 تضاعف غني العالم 4 مرات، وفي عام 1974 كان هناك 30 دولة فقط في مصاف الدول الديموقراطية أي بمعدل أقل من 1 علي 3، أما اليوم فيمكن القول إن هناك 120 دولة ديموقراطية حول العالم بمعدل 2 علي 3، وفي عام 1989 شهد العالم تسارع وتيرة الديموقراطية بعد انهيار الأنظمة الشيوعية لا سيما مع تخلص دول أمريكا اللاتينية من أنظمة عسكرية ترأسها جنرالات من نوعية «أوجيستو بينوشيه» في تشيلي، ولكن طبقاً ل«لاري دياموند» أستاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد فإن العالم يشهد منذ مطلع التسعينيات كساداً ديموقراطياً. الصين وإن كانت تخلت عن الأفكار الماركسية إلا أنها ترفض ممارسة الديموقراطية علي النمط الغربي، ولا تعترف بمبادئهم في حقوق الإنسان، وقفزاتها الاقتصادية الهائلة جاءت انطلاقاً من أجهزة دولة قوية تضع يدها علي كل شيء وترفض فتح الباب أمام الحريات المطلقة كي لا تنساب الأمور من بين يديها، ولكي لا تقع في أزمات حقيقية، فإعطاء الكل الحق في التعبير عن وجهة نظره يعني أن هضبة التبت وإقليم تشنج يانج ذو أغلبية مسلمة، وقد تنقسم البلاد بين أطراف غنية ووسطي فقيرة، وربما تحصل هونج كونج علي استقلال كامل عن بكين.. وهنا يجب أن نتساءل: هل من الممكن أن نري في الصين ديموقراطية علي النمط الغربي، وهل يمكن لتنظيمات أصولية مثل تنظيم داعش أن يؤمن بحقوق الإنسان؟ الإجابة: من المستحيل أن يحدث ذلك. وفي الهند، التي توصف «بالديموقراطية الأكبر في العالم» تعاني محاكمها من بطء شديد يجعل الحديث عن دولة القانون أمراً في غاية الصعوبة، أما البرازيل التي نجحت في الخروج من دائرة الفقر فما زالت غير قادرة علي تهيئة نظامها السياسي علي وجود طبقة متوسطة، وهو ما ظهر واضحاً في احتجاجات عنيفة شهدتها البلاد عام 2012. ويخلص «فوكوياما» إلي أن المشكلة ليست فقط في أن كثيرا من الأنظمة القمعية، علي غرار النظام الإيراني، مازالت تحكم ولكن المشكلة الأكبر أن أنظمة ديموقراطية تمارس السياسة بكثير من الانحطاط، وهو ما يحدث في الولاياتالمتحدة نفسها وكانت انتخابات التجديد النصفي بالكونجرس شاهدة عليه، وهو ما أشارت إليه صحيفة نيويورك تايمز بالقول: «المال أولا وقبل كل شيء، فالأموال كانت حاضرة في كل مكان، أموال طائلة هائلة، لا تنتهي ولا تتآكل أبداً.. لكم أن تعلموا أيها السادة أن تلك الحملة كانت الأغلي في تاريخ انتخابات التجديد النصفي للكونجرس.. 4 مليارات دولار تم إنفاقها في تبادل الشتائم ودعاية أقرب للدعارة»، أما «داريل ويست» أستاذ العلوم السياسية بمعهد بروكينجز للدراسات، فعلق قائلاً: «المليارات هي التي تصنع السياسة في الولاياتالمتحدة، يحدث ذلك بشكل لا يتخيله أحد». أما فوكوياما نفسه فعلق علي ذلك بالقول: «تركز الثروة في أيدي عدد قليل من المواطنين الأمريكيين، منح أصحاب العقول التافهه مكاناً لا يستحقونه في الحياة السياسية». باختصار فإن انهيار سور برلين لا يعني انتهاء الاستبداد والشمولية معه، فرب أنظمة سياسية ترتدي قناع الحريات والديموقراطية، ولكنها تمارس السياسة في أحط صورها، وهو ما يعني أن نبوءة فوكوياما، لم تكن صحيحة، وأن ما نعيشه حالياً هو «نهاية نهاية التاريخ».