المصريون التغني بنهر النيل، يعرفون أنه واهب حضارتهم وحارسها، يحفظون عن ظهر قلب قسم أجدادهم الأوائل بالحفاظ عليه وحمايته، لكن النهر المقدس والترع التي بدأ محمد علي باشا شقها في القرن الثامن عشر عندما حلم بإحداث نهضة زراعية في مصر، تحولت من شرايين الحياة إلي أوعية تحمل الموت لما تتعرض له من ملوثات حولتها إلي بؤرٍ حاضنة للنفايات والحشرات والأوبئة، ما أدي إلي نفوق أعداد هائلة من الأسماك النهرية، وتلوث المحاصيل الزراعية التي تروي بمياه الترع، وتبدو المفارقة فادحة عندما يصرّح مسؤولو وزارة الري بأن الوزارة تنفق سنوياً 200 مليون جنيه لتطهير وصيانة هذه الترع. "آخر ساعة" قامت بجولة لرصد تلوث الترع بعدة محافظات .. البداية كانت من ترعة المريوطية التي تعد شريان الحياة لمئات الآلاف من الأفدنة الزراعية بمحافظة الجيزة وتعتمد عليها كمصدرٍ رئيسي لمياه الري. اختراق الترعة للكتل السكانية بالمحافظة وبخاصة عند تقاطعها مع نهاية شارعي الهرم وفيصل جعلها عرضةً لجميع أنواع الملوّثات. "الترعة أصبحت مقلب زبالة" قالها أحمد البحيري أحد سكان المنطقة المطلة علي المريوطية بينما كان يشير إلي أكياس القمامة ومخلفات المنازل التي تطفو علي سطحها. لكن المشكلة لا تقتصر علي ذلك كما يخبرني أحمد فالكارثة أن بعض المصانع تُفرغ مخلفاتها في مياه الترعة ما أدي إلي تلوثها ونفوق الأسماك فيها. كل الحلول التي تتخذها المحافظة ووزارة الري لتطهيرالترعة وتطويرها هي حلول مؤقتة وغير فاعلة طالما يفلت المعتدون علي الترعة من العقاب ولايتعرضون لأي مساءلة. يتابع وهو يشير إلي تلال مخلفات البناء المكدسة علي جانبي الترعة: إهمال المسؤولين لرفع أطنان الطمي التي تنتج عن عملية التطهير جعل الترعة مستباحة، كل يوم نري لوادر وشاحنات تلقي بردم البناء فيها. تتجلي المأساة في الترع التي تتخلل أراضي محافظة القليوبية رغم أنها تعد من أهم المحافظات الزراعية علي مستوي الجمهورية. فما إن تعبر واجهة القناطر الخيرية الفاتنة بكباريها العتيقة وأهوستها العملاقة حتي تصطدم بوجهها الأقبح، فمن الترعة التي تتفرع من فرع "الرياح التوفيقي" تبدأ معاناة سكان القري التابعة لمركز القناطر الخيرية. علي مشارفِ قرية "الشرفا" تلفحُ وجوهنا رائحة كريهة تنبعث من أكوام قمامةٍ ترقد تحتها الترعة الرئيسية للقرية، جثث الحيوانات النافقة التي تتخللها حوّلت المياة إلي لونها الأخضر. بنبرةٍ غاضبة يصف لي جمال شعيب أحد سكان قرية الشرفا معاناتهم من الترعة التي تحوّلت إلي بؤرة تلوث حاضنة للنفايات والحشرات والقوارض والحيوانات النافقة. الكارثة كما يقول أن هذه الترعة يقترب طولها من 20 كم وتستخدم لري مايقرب من عشرة آلاف فدان موزعة علي سبع قري بمركز القناطر الخيرية، تبدأ من قرية الشرفا وتمر بالمنيرة وكفر عليم وشبرا شهاب والحوالة والسيفا حتي تصل إلي قرية الصالحية. يتابع: منذ سنوات ونحن نعيش في هذا الجحيم، لجأنا إلي جميع المسؤولين في مديرية الري ومجلس المدينة ولا أحد يعيرنا أي اهتمام، لا نحصل إلا علي وعود زائفة. ما جعل المأساة تتفاقم كما يشير شعيب القصور الفادح في منظومة النظافة، فالعربات لا تأتي إلا علي فترات متباعدة جداً ما يجعل القمامة تتكدس أمام المنازل، وللأسف يدفع ذلك الأهالي للتخلص من مخلفاتهم بإلقائها في الترعة بدلاً من حرقها. وبسبب تقاعس مسئولي الري يقوم الأهالي بتأجير معدات علي نفقتهم الخاصة، يضيف: في كل مرة كنا نجمع حوالي ألف جنيه لنرفع أكوام القمامة ونطهر الترعة لكن أغلب الأهالي لا يمكنهم المداومة علي ذلك لارتفاع تكلفة التطهير. علي شاطئ الترعة تجلس نسيمة محمد بجوار بناتها، تغسل الأواني والملابس كما اعتادت أن تفعل كل صباح. لا تختلف مياه الترعة عن تلك التي تأتي من المواسير كلاهما ملوث كما تقول نسيمة، إلا أن الانقطاع المستمر للمياه هو مايدفع جميع نساء القرية إلي استخدام الترعة للأغراض المنزلية. بحسرةٍ تنظر إلي ابنتها الصغيرة: رائحة القمامة والحيوانات النافقة أصابت ابنتي بحساسية في الصدر، وكثير من أطفال القرية لديهم أمراض وبعضهم أصيب بالفشل الكلوي من مياه الترعة. لا تختلف مأساة الترع والمجاري المائية بمحافظة القليوبية عن تلك الواقعة بقري محافظة الغربية، غير أن الأخيرة تقع حائرةً بين جهاتٍ عدة في حين تتنصل وزارة الري من مسؤوليتها عن تطهير كثير من الترع بحجة أن ملكيتها خاصة للأهالي، هذا هو حال قرية أبشواي وقرية نشيل التابعة لمركز قطور بمحافظة الغربية. فمن ترعة "ميت يزيد" التي تغطي الغربية وتمتد إلي محافظة كفر الشيخ تتفرع عشرات الترع التي توصل المياه إلي أراضي القري والعزب الصغيرة. يخبرني مختار عطية "مزارع بإحدي العزب التابعة لقرية نشيل بمحافظة الغربية" أن مديرية الري لم تعد تقوم بأي دور في تطهير الترعة التي تغذي جميع الأراضي الزراعية هنا بعد أن تحولت إلي مقلب قمامة، بحجة أنها ليست ترعة عمومية أي لا تدخل في أملاك الدولة وتتبع صاحب العزبة أو عمدة القرية، مايجعلنا فريسة مسئولي الجمعية الزراعية التي تُحملنا رسوما سنوية باهظة رغم أن جرافاتها لا تقوم بأي شيء يذكر. إلا أن الكارثة الحقيقية كما يشير مختار أن "طرنشات" الصرف الصحي التي يحفرها الأهالي بموازاة الترعة لعدم وجود شبكات للصرف، تجعل مياه الري تختلط بالمجاري ورغم ذلك نضطر لري أراضينا منها.. "إحنا مش زبالين...ووزارة الري لا تجمع القمامة"، بتلك الكلمات بدأ الدكتور خالد وصيف، المتحدث باسم وزارة الموارد المائية والري، حديثه عن سوء أحوال الترع مشيراً إلي أن مسئولية الوزارة تتوقف عند ضخ المياه للترع ومباشرة أعمال الصيانة السنوية وإزالة الحشائش والنباتات التي تطفو علي سطح الترع، مؤكداً ضرورة الالتزام بالقانون الذي يقضي بأن إزالة المخلفات السكنية مسئولية واجبة علي الجهاز المحلي ووزارة الري غير مسئولة عن المخلفات التي يتم إلقاؤها في الترع والمصارف، وأضاف قائلاً: " هؤلاء يتعدون علي وزارة الري ولابد من محاسبتهم". وأشار إلي أن صيانة الترع التي يبلغ عددها 8000 ترعة تتكلف سنوياً 200 مليون جنيه ويتم صيانتها مرتين سنوياً، وحينما زاد عبء الترع لجأت الوزارة لمبادرة " تبني ترعة" وخاطبت فيها رجال الأعمال لتحمل نفقات أعمال الصيانة الخاصة بالترع كل عام، ويختار رجل الأعمال ترعة واحدة فقط ويتحمل تكلفة المقاول الذي يعمل في أعمال الصيانة بها، وتلتزم وزارة الري بأعمال التطهير من الناحية الفنية. لابد من حل المشكلة من أساسها، والحل الأمثل هو توفير أماكن للقمامة بكل منطقة سكنية خاصة المناطق المطلة علي مسطحات مائية، علي أن يتم تدوير تلك المخلفات للاستفادة منها ، ولابد من إعادة تأهيل منظومة الصرف الصحي وتوفير أماكن للصرف بدلاً من الترع والنيل.. وأثني وصيف علي دور وزارة البيئة، التي تتعامل مع التلوث الصناعي المتمثل في نفايات المصانع التي يتم إلقاؤها في النيل، لافتاً إلي أنه لا يوجد إلا 7 مصانع فقط تصرف علي النيل. وبعيداً عن الجانب الرسمي الحكومي حدثنا الدكتور نادر نور الدين خبير المياه العالمي وأستاذ الموارد المائية والري بكلية الزراعة جامعة القاهرة عن أبرز الحلول المطروحة لحل أزمة الترع في مصر، لافتاً إلي أن مصر تمتلك شبكة ترع يتجاوز طولها ال 30 ألفاً كما تبدأ من السد العالي بأسوان وتنتهي بدمياط ورشيد وصولاً للإسماعيلية وسيناء، وترعة الحمام والنوبرية ووصولا للساحل الشمالي الغربي، كما أن 80% منها أنشئ منذ عهد محمد علي، والصيانة التي تخضع لها الآن صورية وشكلية وبالتالي يزداد تدهورها عاما تلو الآخر. وأكد نور الدين، أن إجمالي فقد المياه من السد العالي وصولا للمصب يبلغ 19 مليار متر مكعب كل عام وهذه الكمية تكفي لري 4 ملايين فدان، ويرجع هذا الفقد لعدة أسباب أبرزها أن معظم الترع مفتوحة وليست مبطنة ويحدث الفقد بالرشح أو بالبخر في أعماق الترع ، وتعرضها للإطماء ويحدث ذلك نتيجة تراكم كمية الطمي، فضلاً عن الحشائش التي تنمو علي جوانب الترع كالنجيلات وورد النيل، فالنبات الواحد يستهلك 10 لترات يومياً من المياه.. السبب الأكبر لتلوث مياه الترع هو أن مصر لا يوجد بها صرف صحي، فنحو 55 مليون مواطن يعيشون بدون صرف، وهذه المخلفات تصرف في الترع والمصارف، كما أن هناك 102 مصنع تلقي بنفاياتها في النيل وليس لديهم خطط مستقبلية لتوفيق الأوضاع مع وزارة البيئة، كما أن المياه الملوثة بلغت 7 مليارات متر مكعب، ومليار متر مكعب من الصرف الصناعي فقط.