في الوقت الذي يعود فيه الاستقرار الأمني إلي الشارع المصري الذي تجرع ويلات الانفلات في أعقاب ثورة يناير 2011 وما تلاها من أحداث ميدانية وصلت ذروتها في أغسطس العام الماضي واستمرت عدة شهور، عقب فض اعتصام أنصار الرئيس الإخواني "المعزول" محمد مرسي، بدأت مؤخراً بوادر عودة القبضة الأمنية إلي الشارع، وهو ما ترجمه علي أرض الواقع عودة الفعاليات الرمضانية الساهرة التي ارتبطت تاريخياً بالشهر المعظم في مصر وخاصة في العاصمة. بعد غياب دام أكثر من ثلاث سنوات، عادت الحياة إلي شوارع القاهرة، مع شهر رمضان، الذي طالما ارتبط في الذهنية المصرية بالعديد من الفعاليات الدينية والثقافية، حيث دأب غالبية المصريين علي اختلاف مستواهم فقراء كانوا أو أغنياء، وخاصة في القاهرة علي السهر حتي الفجر في مقاهي القاهرة والأحياء التراثية ذات الطابع الديني مثل الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة، للاستمتاع بالندوات والأناشيد الدينية، كما احتشد الآلاف يومياً منذ اليوم الأول من الشهر الكريم في الخيام الرمضانية التي تجتذب رواد الأماكن التاريخية. خلال جولة ل"آخرساعة" في أرجاء الأماكن المرتبطة بالسهرات الرمضانية، اكتشفنا زيادة في أعداد المقبلين علي السهرات في رمضان العام الحالي، بما يتناقض مع حالة التقشف المادي التي يعيشها المصريون، في أعقاب قرارات رفع الدعم عن المواد البترولية، وما نتج عنه من زيادة ملحوظة في أسعار العديد من السلع، بخلاف أن تكلفة تلك السهرات مرتفعة غالباً، إلا أن حالة الاستقرار الأمني التي تعيشها البلاد هذه الأيام جعل الإقبال مرتفعاً. الجولة بدأناها من خيمة رمضانية "فايف ستارز" بأحد الفنادق الكبري علي نيل القاهرة في الجيزة، حيث كانت نسبة الإقبال مرتفعة للغاية، والحجز داخل الخيمة يكون مقدماً. علي سعيد، مدير عموم المطاعم بالفندق الشهير، أكد أن الخيمة تشهد هذا العام إقبالاً أكبر بكثير مقارنة برمضان العام الماضي، فاعتصام أنصار جماعة "الإخوان" في ميدان "نهضة مصر" القريب من الفندق جعل نسبة الإقبال يومياً تصل إلي الصفر، بينما الحال هذا العام مختلف تمام، وهو ما يساهم في ترويج السياحة الداخلية، مُرجعاً الفضل إلي عودة الاستقرار الأمني.. وتابع في تصريحات ل"آخرساعة": نسبة السياحة العربية خلال الفترة الحالية مرتفعة، خاصة الوافدة من دول الخليج، لافتاً إلي أن نسبة الإشغال في الفندق قفزت من 10% إلي40% ونطمح إلي تناميها أكثر في الفترة المقبلة. وأشار سعيد إلي أن أهم ما يميز الخيمة الملحقة بالفندق، عدم وجود حفلات صاخبة قبل موعد السحور، فالمكان يسيطر عليه أصوات "الباند الشرقي" والطرب الأصيل، وتبلغ قيمة وجبة الإفطار حوالي 300 جنيه للفرد الواحد، أما السحور فتكلفة الفرد الواحد حوالي 150 جنيهاً، كما أن قائمة أسعار الخيمة تبدأ من 30 جنيهاً وهي أسعار المقبلات والعصائر وتصل إلي 300 جنيه للوجبات الكبيرة، وتتوافد علي الخيمة طبقة الأغنياء وأعضاء الهيئات الدبلوماسية بجانب العرب والأجانب الذين يستمتعون بأجواء رمضان في مصر.. وفي قلب القاهرة وعلي صفحة النيل أيضاً كان موعدنا التالي مع خيمة رمضانية أخري في أحد الفنادق الكبري أيضاً، التي تختلف في طابعها عن أي خيمة أخري، فهي عبارة عن مكان مفتوح علي النيل، بالإضافة إلي فرقة صغيرة مكونة من ثلاثة مطربين يشدون بأغنيات من زمن الفن الجميل، ويتواكب ذلك مع الجو العام المتسم بالهدوء، ومواعيد هذه الخيمة مختلفة عن غيرها، حيث تبدأ من الساعة التاسعة والنصف مساءً وتنتهي في الواحدة والنصف صباحاً، أي قبل موعد أذان الفجر بنحو الساعتين. الهدوء الذي يميز هذه الخيمة كان سبباً في توافد العائلات حيث تختفي مجموعات الشباب تقريباً من المشهد، ليستمتع الرواد بالأطباق المنوعة والشهية التي توفرها قائمة الطعام، فوجبة السحور تتكلف 110 جنيهات، وتحتوي علي طبق فول وطعمية وبيض ومقبلات وزبادي وشاي، والأسعار عموماً تتراوح بين 25 إلي 200 جنيه، للوجبات العادية بعيداً عن وجبة السحور. بدر الزناتي المشرف علي الخيمة قال إن العام الحالي لا يُقارن مُطلقاً بالماضي، مشيراً إلي شعور الأسرة المصرية بالأمان، وهو ما يجعلها تنزل لتسهر في الأماكن العامة والسياحية بما يساعد في الترويج جيداً للسياحة الداخلية، لافتاً إلي أن الشعب المصري ينتظر أي فرصة لكي يؤكد قدرته علي تجاوز الأزمة. وأضاف الزناتي: الفندق لم يغير قائمة أسعاره منذ ثلاث سنوات تقريباً، دعماً للسياحة، وهو ما بدأنا في جني ثماره هذا العام، فنسبة الإشغال تخطت40% بعدما كانت متجمدة عند 5% في أحسن حالاتها. ومن عالم الطبقة الراقية إلي دنيا البسطاء ومحدودي الدخل، حيث توجهنا إلي وسط البلد حيث أحد المقاهي الشعبية الذي كان ممتلئاً عن آخره والجميع يسلي وقته علي أنغام الأغاني وتدخين "الشيشة"، إلا أن المنطقة كان يغلب عليها الطابع الشبابي ولم يمنع ذلك وجود بعض الأسر التي تأتي إلي منطقة وسط البلد لشراء ملابس عيد الفطر والاستمتاع بالسهر علي مقاهي وسط البلد حتي وقت السحور. أحمد عمران صاحب المقهي قال إن جميع الطبقات الاجتماعية ترتاد مقهاه للسهر، لكن الوضع يغلب عليه الطبقة المتوسطة، مشيراً إلي أن هناك عدداً من المطاعم القريبة من المقهي تقوم بتحضير السحور لزوار المقهي ويُقدر سعر الوجبة المكونة من الفول والبيض والبطاطس ب25 جنيهاً للفرد. بينما أحمد محروس (27 عاماً)، قال: "نأتي إلي هنا رغم ارتفاع الأسعار، لكننا لا نستطيع ألا نقضي ليالي رمضان في وسط هذا الكم الهائل من المصريين، موضحاً أن تكلفة الجلوس علي المقهي والسحور تتجاوز 50 جنيهاً للفرد، ما يعني أن أسرة مكونة من أربعة أفراد بحاجة إلي 200جنيه لكي تستمتع بسهرة من هذا النوع في وسط البلد. وتأخذنا الجولة إلي أجواء أخري بين مقاهي الحسين وخان الخليلي والأزهر، فالمصريون بجميع طبقاتهم عادة يقبلون علي صلاة العشاء والتراويح في أحد المساجد التاريخية القريبة من المقهي الذي يختارون الجلوس عليه، ويواصلون السهر مع الأهل والأصحاب ويتناولون المشروبات التي تشتهر بها تلك الأماكن ويختمون ليلهم بالذهاب إلي أحد الأماكن التراثية والتاريخية مثل بيت "السيحمي" لسماع الأناشيد ثم يتناولون السحور من المطاعم الشهيرة الموجودة في حي الحسين والأزهر. أحد العاملين بمقهي "الفيشاوي" ذائع الصيت أكد أنه علي الرغم من ارتفاع الأسعار وحالة التقشف التي يعيشها المصريون إلا أن سهرات رمضان لا تتأثر بكل هذه الظروف، فتكلفة سحور الفرد الواحد قد تتجاوز ال 70 جنيهاً، لكن الإقبال كبير للغاية، والجميع يستمتع بالسهر قرب الأماكن ذات الطابع الديني والتراثي، وعلي إيقاع الأناشيد الدينية وحفلات المديح التي تمتاز بها هذه الأماكن.