أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا.. هذا ماحدث معي، فقد علمت من ملصق علي المركز الثقافي الهندي في وسط البلد، أن سفارة الهند سوف تقيم معرضا تحت مسمي سحر النسيج الهندي (الساري) في متحف محمود مختار بالجزيرة ضمن أحداث مهرجانها في مصر لهذا العام بعنوان (الهند علي ضفاف النيل)، ولأنني من هواة أفلام بوليوود المتميزة، فأنا أعلم جيدا مكانة هذا الزي في الثقافة الهندية، ولذلك دونت تاريخ المعرض، وككل شيء في حياتي أسجله حاليا ولا أجد وقتا للقيام به، المهم بعد افتتاح المعرض بيومين قررت الذهاب إليه، ووصلت إلي هناك ووجدت في قاعة العرض أنواعا متعددة من نسيج الساري وكل صنف منها يمثل إقليما معينا في الهند، وفي الصدارة كان هناك بعض الدمي تشرح مراحل ارتدائه، وغيرها تمثل قيمته الثقافية في الموروث الشعبي الهندي وهناك أيضا عدد من الصور لهنديات يرتدين الساري بألوانه المبهجة، وأخيرا صورة بالأبيض والأسود لرجل يقف علي النول وينسج الساري بطريقة ساحرة، وقد وجدت أنني أقف في القاعة لوحدي ولم أعثر علي أي هندي أو حتي مصري، لكي يشرح لي الطريقة البديعة في صنعه، ولكن اكتفي القائمون علي المعرض بالملصقات الورقية التي توضح باللغة العربية نوعية كل نسيج والولاية التي تستخدمه. وقد اكتفيت أنا أيضا بقراءة ملصق أو اثنين منها، وقمت بعدها بالتجول بين الأقمشة، وتخيلت ممثلات بوليوود وهن يرتدين الساري ويرقصن ومدي روعة وجمال الألوان.. وغادرت القاعة وأنا آسفة علي الوصول متاخرة بعد الافتتاح بأيام، وفي طريق الخروج وجدت بعض المعروضات الخشبية مكدسة فوق بعضها، فقمت بتصويرها من جمال منظرها، ولأنني كنت قد انتهيت من دورة عن المتاحف ودورها الرئيسي في تنمية المجتمع في بيت السناري الأثري، فقد قررت أن أزور متحف محمود مختار (1891/1934) بالمرة، فقد كانت آخر زيارة لي منذ حوالي 20 عاما، وبعد تسجيل اسمي وقطع تذكرة ب3 جنيهات وإعلامي أن التصوير ممنوع، تركت حقيبتي في الأمانات بعد أن أخذت منها المحمول والمحفظة والبلوك نوت والقلم، وقد انتظرت فترة حتي يعثروا لي علي أمينة متحف تقوم معي بالجولة، وفجأة قالت لي من تجلس في الاستقبال اتفضلي، المهم دخلت وأنا لم أدرك أن التي تسير ورائي هي أمينة المتحف هبة عبد المنعم التي سترافقني في جولتي، وذلك بعد أن سألتها أنت طالبة في أي كلية، فابتسمت قائلة أنا مرافقتك، لأجيب علي أي سؤال، لكن بأمانة هي لم تترك لي فرصة لذلك، فهي لبقة وحاضرة الذهن وتشرح بحب والابتسامة لم تفارقها، فقد قالت لي إن المهندس المعماري المبدع رمسيس ويصا واصف صمم المتحف علي 3 محاور الواجهة الخارجية والمدخل علي شكل معبد فرعوني، أما سلالم الدور الأرضي علي شكل مئذنة مسجد دائرية، بينما وجود مقبرة محمود مختار في البدروم تمثل فكرة كنائسية عقائدية، وأضافت هبة أن سقف الدور الأرضي كان من الزجاج في الستينات ولكن بعد التطوير ألغي، وقد تذكرت هذا السقف من زيارتي الأولي.. ودخلت قاعة البرونز فوجدت فيها العديد من التماثيل دقيقة الصنع وتظهر تمكن الفنان من موهبته واتقانه، وفي قاعة سعد زغلول وقفت هبة تحكي قصة كل تمثال وكيف فاز مختار علي الفنانين الفرنسيين عند تصميم تمثال الزعيم الذي وضع في الميدان الذي يحمل اسمه بالإسكندرية، وعلي واجهته فتاة تمثل الوجه البحري والأخري تمثل الوجه القبلي، وكأنه موحد القطرين مثل مينا. وفي قاعة رياح الخماسين وقفت مشدوهة من دقة صنعة الفنان، فالرياح كأنها لاتزال تهب وتأخذ بتلابيب جلباب الفلاحة المصرية وهي تشد بكل قوة حتي لاتقتلعها الرياح العاصفة.. وهنا شرحت لي هبة أن مختار كان يستعين بفلاحات كموديلات له وأن هناك في المتحف صورة تجمعه بهن، وفي الدور الأرضي.. كانت توجد قاعة للفلاحات حاملات الجرار في تسلسل موضوعي.. فقد كانت الفلاحة عنده تمثل مصر وكان يحلم بأن ينحت تمثالا لفلاحة ترتدي الزي الشعبي لكل إقليم مصري ويوضع في مدخله، وهناك عدد من التماثيل الصغيرة نحتها مختار بالفعل كنماذج كان من المفترض أن ينفذها. أما الجداريات التي حفرها مختار فهي 8 من النحت البارز والغائر منها جدارية لسعد زغلول ورفاقه عند تقديمهم مطالب الشعب للإنجليز، وتحية الأقاليم المصرية والإرادة والعدالة، وأروعها من وجهة نظري موسم الحصاد وهي تشبه نظيره الموجود في المعابد الفرعونية، ولكن بزي وهيئة الفلاح المصري في عصر مختار. وقد أعجبني كل من تمثال العميان الثلاثة الفقراء ونظيره الفلاحات الثلاث الصديقات. وفي قاعة التذكارات شاهدت البالطو الأبيض الذي كان يرتديه أثناء عمله وأدواته البسيطة التي أبدعت كل هذا الفن الرائع، وأيضا بالطو أزرق وبريه ومقعد خاص به يشبه كرسي العرش يقال إن الفنان صممه بنفسه ومنجد بالجوبلان، ولفت نظري تأبين الشيخ مصطفي عبد الرازق له في جريدة الجهاد 1934 بكلمات قوية وبليغة، رثي بها الفنان ومدي تقديره له وللفن والفنانين، كما وجدت تمثالا لسعد زغلول يشبه غاندي ولكن بأذن كبيرة وهنا قالت لي هبة إنه كان يريد أن ينصح الزعيم بألا يستمع لكلام المنافقين والمغرضين، وهو تمثال معبر بالفعل . وقبل أن أغادر وجدت ماكيتا لمشروع الاستقلال عبارة عن معبد فرعوني خارج منه الكاتب المصري وفي الجهات الأربعة تماثيل، وقالت هبة إنه يعبر عن استقلال مصر ونهوضها من كبوتها وأضيف أنا أنه يصلح للتنفيذ بصفته الحلم الأخير المجسم للفنان والذي يحتاج من يتبناه وينفذه ويوضع في مكان مميز، وبذلك يتحقق حلمه. وفي طريق الخروج لفت نظري تمثال البشاري حامل الرسائل وهو يشبه تماما أفراد قبيلة البشاريين في مثلث حلايب وشلاتين المصري الذين ينتمون إلينا أبا عن جد وقد شاهدتهم عند زيارتي لهم منذ سنوات. وقد حاز إعجابي تمثال اللقية في قاعة إيزيس المصنوع كل تماثيلها من الرخام الأبيض، فهي تشبه جدتي بضفائرها الرائعة ووجنتيها البارزتين.. وقد أوصلتني هبة عبد المنعم إلي خارج قاعات المتحف وسألتني هل شاهدت تمثال كاتمة الأسرار، وأخدت تسرد لي مواضع الجمال فيه، وفي حركة رقيقة منها أخذت محمولي والتقطت لي صورة بجانب الكاتمة وكأنني أبوح لها بمكنوناتي وأسراري وهي تجلس وكلها آذان منصتة، بل توشوشني بلاش خوف سرك في بير.! ومن فوق شاهدت من يفرش المعروضات المكدسة في الحديقة.. ونزلت للاستعلام عن ما يحدث فوجدت محمود حنفي وزوجته كوثر وأطفالهما وعامل آخر يقومون بتنسيق المعروضات المصاحبة لمعرض. سحر النسيج الهندي، وقال لي حنفي إن السفارة الهندية بصفته أقدم مستورد للمشغولات اليدوية الهندية سمحت له بعرضها بدون أن يأخذوا أرضية وأنه يبيع بأسعار مخفضة احتفاء بهذا المعرض، وأخذ حنفي يشرحي لي دقة ورقة المشغولات الخشبية والورقية وغيرها، وأخذت زوجته كوثر وابناها يعرضان علي مدي جمال الصنعة، وأنا اشتري فأنا أعشق كل ماهو جميل ولم يوقفني إلا فراغ محفظتي من النقود، فهذا طبق من الخشب محفور عليه ورود يصلح طبقا للفاكهة، وتلك فازات من الخشب المطعمة بوردات وأوراق من النحاس الأصفر والأحمر، وهذه براويز صور من أوراق الاشجار المجففة، لكن كوثر بدأ يتجمع حولها العاملون في المتحف والمركز الثقافي وقاعات العرض الملحقة به، وهي تبيع لهم وتتهاود في السعر وهناك من الموظفات من سألن عن الساري الهندي، فقالت كوثر المرأة المصرية مهووسة بالساري الهندي، وتعشق جماله، مضيفة أنها تعرف كيف تلفه، وقد غادرت المكان بعد أن مكثت أكثر من ساعة مرت كأنها ثوان، وأنا أتامل جمال وروعة كل من الفن المصري والفن الهندي، فقد حصلت علي جرعة منشطة من الفن الإنساني، وفي مترو الأنفاق قالت لي من تجلس بجانبي وأنا أحمل جملين (أم وابنها) وكيس من المشغولات الخشبية، هو لسه حد بيشتري تحف، أجبتها، بنحاول نجمل الحياة، فما تزال مستمرة في السؤال وأنا أجيب بكل حب وود.