عبدالناصر فى موسكو مع بودجورنى من أجل صفقات السلاح مازلنا نتابع شهادة أنتوني ناتنج وزير الدولة البريطاني للشئون الخارجية في حكومة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل التي أعقبت الحرب العالمية الثانية الذي قام بالمفاوضات الأخيرة مع عبد الناصر التي أدت إلي توقيع اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن مصر.. والذي قدم استقالته عشية العدوان الثلاثي علي مصر احتجاجا علي التآمر الذي اشتركت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.. وعمل بعد ذلك صحفيا لكبري الصحف البريطانية.. وكان صديقا للرئيس عبدالناصر.. وقد ألف ناتنج كتابا بعنوان »ناصر« ضمنه كثيرا من الأسرار وخاصة خلال الفترة التي تلت حرب الأيام الستة بين مصر وإسرائيل.. وفي هذه الحلقة يكشف ناتنج كيف دفع عبدالناصر صديقه عبدالحكيم عامر إلي الانتحار.. وكيف تحول عبدالناصر بعد نكسة 67 إلي إنسان آخر منزوع الكبرياء. كان لتحدي عبدالحكيم عامر عاقبة وخيمة، إذ بعد ثلاثة أشهر ألقي القبض عليه مع شمس بدران وحوالي خمسين ضابطا آخرين بتهمة التآمر للإطاحة بالرئيس.. وبعد ذلك أضيف صلاح نصر مدير المخابرات العامة إلي قائمة الاتهام وحكم عليه مع بدران بالسجن المؤبد.. وكان كأس المرارة قد بدأ يفيض لدي عبدالناصر، فقد رفض عامر عرض العفو الذي أرسله إليه، ولم يكن أمام شخص في مركزه سبيل للإفلات من الإعدام إذا ثبتت إدانته، وكانت هذه نتيجة حتمية في ضوء الأدلة المتوفرة، وكان عبدالناصر مثله مثل كل فرد آخر علي بينة من ذلك وبتلك السمة الغريبة من طبيعته التي جعلته غالبا متساهلا مع أولئك الذين خانوه بنفس القدر الذي جعلته قاسيا مع أقرب مؤيديه.. قرر السماح لعامر بالانتحار قبل تقديمه للمحاكمة بدلا من أن يجد نفسه مضطرا إلي توقيع قرار يقضي بإعدام أقدم أصدقائه. مؤامرة لقلب نظام الحكم والواقع أنه مهما كان الشر الكامن وراء دوافع المتآمرين الآخرين، فمن المؤكد أن هدف عبدالحكيم عامر لم يكن الإطاحة بالرئيس بقدر ما كان يهدف إلي إعادته إلي منصبه كقائد عام للقوات المسلحة، واعتقادا منه بأن شعبيته في الجيش سوف تخدمه في الحاضر كما خدمته في الماضي، فقد سمح لنفسه بالتورط في مخطط لم يجد الادعاء في محاكمة شمس بدران التي تلت ذلك صعوبة كبيرة في أن يبرهن علي أنه مؤامرة تتسم بالخيانة ضد نظام الحكم، ونظرا لأنه كان ساذجا فلم ير أن هناك فارقا بين هدف الإطاحة بعبد الناصر أو مجرد محاولة العودة إلي منصبه السابق، لأنه لو نجح في تلك المرحلة في العودة كقائد عام لقضي علي سلطة عبدالناصر بصورة فعالة كما لو أنه استولي علي الرئاسة لنفسه.. والأغرب من هذا أنه تجاهل كلية أن الجيش الذي كان يكن له احتراما كبيرا قد تحطم وتلطخت سمعته إلي حد أنه فقد كل إيمان به وبكل زعيم آخر. وعقب انتحار عبدالحكيم عامر ألغي منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية.. وعندما استقال زكريا محيي الدين فيما بعد لم يعين نواب لرئيس الجمهورية إلا في ديسمبر عام 9691 عندما أعيد أنور السادات من الظل كرئيس لمجلس الأمة ليصبح النائب الوحيد إلي أن وافت المنية عبد الناصر بعد تسعة أشهر.. والواقع أنه عندما ترك زكريا محيي الدين الحكومة لم يكن قد بقي من رفاق عبدالناصر الأحد عشر في مجلس قيادة الثورة سوي أثنين: أنور السادات الذي كان عبدالناصر يستخف به وحسين الشافعي الأضعف شخصية، وقد بقي كلاهما لأن عبدالناصر في أشد اللحظات نزوعا إلي الشك لم يعتبرهما منافسين له. عبدالناصر يتقوقع لقد كان عبدالناصر كما فعل مرارا من قبل، عندما يتعرض لنكسة خطيرة ينزع إلي التقوقع ويلقي علي نفسه المزيد من التبعات بعد أن يستغني عن أعوانه ماعدا الذين لايوجهون نقدا.. وفي أعقاب حرب الأيام الستة أصبح رئيسا للوزراء اسما وفعلا، واستبدل عبدالحكيم عامر بالفريق أول محمد فوزي، كما عين الفريق عبدالمنعم رياض رئيسا لأركان الحرب الذي لقي مصرعه نتيجة للقصف الإسرائيلي علي قناة السويس في مارس 9691.. ولكن خوفا من أن يحاول محمد فوزي أن يصبح عامر آخر تولي عبدالناصر بنفسه الإشراف علي القوات المسلحة وعين نفسه القائد الأعلي، كما أنه تدخل في المسائل القضائية، وعندما قام عمال الحديد والصلب في حلوان وطلبة جامعات القاهرة والإسكندرية باحتجاج لأن صدقي محمود ورفاقه اللواءات صدرت ضدهم أحكام مخففة أمر بإعادة المحاكمة التي زادت الحكم علي صدقي محمود من 51 عاما للسجن المؤبد. كابوس دائم وقد اعترف لي عبدالناصر في وقت لاحق بأن الأسابيع التي أعقبت حرب عام 7691 كانت بمثابة كابوس دائم.. لقد كانت الخسائر في المعدات والرجال في المعارك الأخيرة كبيرة إلي حد أن القوات التي لم تكن متورطة في اليمن أو لقيت حتفها في سيناء لم يكن لديها من السلاح ما يمكنها من الدفاع عن مصر.. فقد دمر سلاح الطيران وكانت القاهرة معرضة للهجوم. ولو أن الإسرائيليين قرروا التقدم غربا من القناة لما استطاع الجيش أن يوقف تقدمهم.. ومن ثم استدعي كمال الدين حسين في محاولة يائسة لتشكيل نوع من المقاومة، وطلب منه عبدالناصر تكوين قوات شعبية علي غرار القوات التي أزعج بها المحتلين البريطانيين في بورسعيد عام 6591.. ولكن كمال الدين حسين اشترط للموافقة علي ذلك أن يطلق عبدالناصر سراح عدد من أقرانه القدامي من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فكان رد عبدالناصر وقد تملكه الغضب إزاء هذه الشروط: »أتظن أنني من الضعف بحيث تستطيع إملاء شروط؟«. عبدالناصر يطلب خبراء روسا ولكن إذا كان عبدالناصر قد رفض الإذعان لمطالب كمال الدين حسين، فلم يكن هناك من يدرك أكثر منه مدي ضعف موقف مصر وتعرضها للهجوم في تلك اللحظة فمع إغلاق قناة السويس ومرابطة العدو علي ضفتها الشرقية تعرضت البلاد لخسارة سنويا قدرها نحو مائة مليون جنيه استرليني، ومن ثم لم يكن هناك أموال لشراء الأسلحة التي يتطلبها بشدة الصمود علي جبهة القناة وحماية القاهرة والدلتا من غزو آخر.. ولما قام الرئيس الروسي بودجورني بزيارة القاهرة بعد أسبوعين من وقف إطلاق النار اضطر عبدالناصر إلي التغاضي عن كبريائه واستجداء معونة السوفييت ولم يقتصر طلبه علي إرسال أسلحة كهدية وإنما ألح أيضا علي أن يوفد السوفييت إلي مصر مستشارين ومدربين عسكريين روسا.. وإدراكا منه بأن انتصار إسرائيل يرجع إلي التفوق التكنولوجي بقدر ما يرجع إلي المهارة العسكرية فقد كان علي بينة من أن مجرد امتلاك عتاد حديث لن يساعد قواته علي مواجهة العدو في المستقبل بأكثر مما ساعدها في الكارثة الأخيرة.. ولهذا أصر عبدالناصر خلال زيارة بودجورني للقاهرة علي ضرورة إلحاق مستشارين وفنيين سوفييت بكل لواء بل لو أمكن ففي كل كتيبة في الجيش المصري. كان الروس في بداية الأمر يرفضون هذه المطالب ولم يكونوا يرحبون إلا بتقديم شحنات طبية وتقديم إمدادات لإسعاف الجرحي وإغاثة اللاجئين الذين تركوا مدن القناة فرارا من القصف الإسرائيلي.. كما كانوا علي استعداد لتعويضي خسائر مصر في الطائرات والمدافع وغير ذلك من العتاد العسكري إلا أن كوسيجن كان قد قام مؤخرا بزيارة الولاياتالمتحدة لإجراء محادثات مع ليندون جونسون حيث صدم صدمة بالغة بعمق المشاعر الموالية لإسرائيل في أمريكا ولاسيما في حكومة جونسون.. ومن ثم كان يخشي من أنه إذا ما اضطلعت روسيا بالدور النشط الذي يقترحه المصريون فإن ذلك سيؤدي إلي وقوع مواجهة مع الأمريكيين، إلا أنه اقتنع في نهاية الأمر هو ورفاقه في الكرملين ووافقوا علي تقديم ما طلب منهم من سلاح ومستشارين وفنيين علي أساس أنهم سيتمكنون عن طريق تلبية طلبات عبد الناصر من إبقاء القوات المسلحة المصرية تحت سيطرتهم، والواقع أنه ما إن اتخذ القرار حتي شرعت الحكومة السوفيتية في التنفيذ علي وجه السرعة، الأمر الذي مكن من تجديد شبكة مصر الدفاعية في غضون خمسة شهور من تزويدها بأسلحة حديثة ومدربين روس في كل تشكيل عسكري أعلي من مستوي كتيبة. مشاكل ناصر الصحية غير أن الحرب وأكثر من ذلك أثارت الليالي الحافلة بالأرق والفزع المستمر مما كان له تأثير بالغ علي حالة عبد الناصر الصحية، فلم ينقص وزنه أكثر من ثلاثين رطلا فحسب، بل الأسوأ من ذلك أن مرض السكر أخذ يسبب مضاعفات متزايدة من بينها التهاب الأعصاب واضطرابات القلب، وأثر ذلك علي أطرافه فبدأ يجر ساقه أثناء سيره. لكن نتيجة لخوفه من أن تذاع أنباء مرضه حول العالم ظل يرفض عرض نفسه علي أطباء أجانب حتي مستهل عام 8691 عندما استدعي بناء علي إصرار أسرته أخصائياً بريطانياً كان قد عالج زوج ابنته في إنجلترا وعلي الرغم من أنه ظل يتجاهل توسلات أطبائه بأن يحاول العلاج في الخارج أو ينال قسطا أوفر من الراحة، فقد ساءت حالته في شهر يوليو التالي إلي حد اضطر معه إلي الرضوخ وإلي قضاء ثلاثة أسابيع في إحدي المصحات الروسية، وعندما قمت بزيارته بعد ذلك بثلاثة شهور في القاهرة كان قد استعاد معظم وزنه المفقود وبدا أنه استرد كثيرا من قوته الجسمانية.. ومع ذلك كان أطباؤه لايزالون يخافون علي قلبه، وكان مما يلفت النظر بعد ذلك أنه كلما قام برحلة أو اضطلع بعمل ينطوي علي أي جهد بدني أو ذهني تتبعه وحدة أوكسجين متنقلة علي مسافة معقولة. أصبح عبدالناصر إنسانا آخر بعد أن أرهقه اعتلال صحته والهموم الخطيرة الناجمة عن هزيمة 76، فقد ولي جانب كبير مما كان يتسم به من اعتداد بالنفس في السنوات الخوالي كما ولت أي مزاعم بأنه قائد النهضة العربية.. وكما أسر إلي وهو يبتسم ابتسامة شاحبة بأنه لايستطيع بدون جيش أو سلاح جوي يدافع عن بلاده أن يتطلع إلي زعامة أي بلد آخر.. ومن ثم فإنه عندما كانت الأممالمتحدة تبحث مسألة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة كان سعيدا جدا بأن يضطلع الملك حسين بدور رئيسي في واشنطن ونيويورك.. وقد طلب عبدالناصر من الملك حسين في حديث جري بينهما في القاهرة قبيل سفر الملك إلي أمريكا ألا يساور القلق بشأن سيناء التي هي مسئولية مصر وقال له: »لقد أوقعتك في هذه الورطة فعليك أن تنسي خسائري واذهب وقبل يد جونسون واطلب منه أن يعيد إليك الضفة الغربية«.. ورغم أنه وافق علي رأي الملك حسين بأنهما يستطيعان تحقيق نجاح أكبر إذا اتحدت جهودهما فإنه أوضح مع ذلك أنه يريد أن يتسلم الأردن زمام الأمور في الأممالمتحدة، فقد كان للملك حسين بعكس المصريين أصدقاء في أمريكا يستطيع أن يثير عواطفهم بشكاواه حول ضم إسرائيل للقدس وقصص آلاف اللاجئين الفلسطينيين الجدد الذين فروا إلي الأردن أثناء القتال والذين لن يسمح لهم الإسرائيليون بالعودة إلي الضفة.