»انتبهتُ ذات يوم وأنا أقود سيارتي إلي واحدة من القواعد النفسية والأخلاقية العامة التي يشترك فيها معي أكثر الناس، فإذا حجزتني سيارة بطيئة أمامي قلت: يا لهذا السائق البليد، وإذا تجاوزتني سيارة مسرعة من ورائي قلت: يا له من سائق متهور! ذلك أن كلًا منا يعتبر نفسه »النموذج» الذي يُقاس عليه سائر الناس، فمن زاد علينا فهو من أهل الإفراط، ومن نقص عنا فهو من أهل التفريط. إذا وجدتَ من ينفق إنفاقك فهو معتدل كريم، فإذا زاد فهو مسرف، وإذا نقص فهو بخيل، ومَن يملك جرأتك في مواقف الخطر فهو عاقل شجاع، فإذا زاد فهو متهور، وإذا نقص فهو جبان! ولا نكتفي بهذا المنهج في حكمنا علي أمور الدنيا بل نوسعه حتي يشمل أمور الدين، فمَن عبد عبادتنا فهو من أهل التقوي والإيمان، ومن كان دونها فهو مقصر، ومن زاد عليها فهو من المتنطّعين. وبما أننا جميعاً نرتفع وننخفض ونتقدم ونتأخر ونتغير بين وقت ووقت وبين عمر وعمر، فإن هذا المقياس يتغير باستمرار. ربما مَرّ علينا زمان نصلي فيه الصلاة مع الجماعة ثم نقوم فنمشي دون أن نصلي السنّة، فنحس في قرارة أنفسنا بالأسف علي مَن يفوّت الجماعة ونراه مقصراً، لكننا لا نري أي بأس في الذين يقتصرون علي »الفرائض» دون النوافل، فإذا تفضّل الله علينا وصرنا من المتنفّلين نسينا أننا لم نكن منهم ونظرنا إلي من لا يتنفّلون بعين التعالي والزِّراية أو بعين الشفقة والرثاء. ولم أكن يوماً في ذلك وحدي، فكلنا يعتبر نفسه هو الأصل والنموذج والمعيار الذي تقاس عليه أمور الدنيا والدين». ليس هذا كلامي وإنما هو اقتباس بتصرف من أحد التربويين العرب انتشرت كلماته مؤخراً بشكل لافت في عالمنا الموازي أو الافتراضي في الشبكة السيبرانية ووسائط التواصل الاجتماعي، هو د. محمد الخامس المخلافي، وإذا كان للمرء نصيب من اسمه، فلعل هذا الرجل النابه لم ينصفه اسمه، وإن سبقت أفكاره كثيراً من المواقف والمعاني والمسميات. وهو يفسر ما كتبه قائلاً: »نصل من تلك الملاحظات إلي قاعدة مهمة من قواعد الحسبة ألا وهي: إياك أن تظن أن مقياس الصواب في الدنيا ومقياس الصلاح في الدين هو الحالة التي أنت عليها والتي أنت راض عنها، فرُبّ وقت مضي رضيتَ فيه من نفسك ما لا ترضاه اليوم من غيرك من الناس، فدع الخلق للخالق فالله يتولي أمرهم، وأعمل علي إصلاح ذاتك فالمؤمن من دان نفسه، وتمثل قول الله تعالي: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيم.. يوسف 53) انتهي الاقتباس، وما ينبغي أن ينتهي معه التأمل والتفكير. وفي تقديري فقد صدق الرجل فيما ذهب إليه، ووضع إصبعه علي واحدة من أهم مثالب طرائقنا في التفكير، وإلي ما اعتري ثقافتنا العامة من فتور واضمحلال ربما مرده أننا أمة لا تقرأ، تتقوقع نفوسنا وتنكب علي ذاتها قانعة بما حصلته من ثقافة شفاهية سيارة، فيها من النقل والعنعنة أكثر مما فيها من الأصالة والبحث والتفكر والتجديد. فإذا ما نظرنا بصدق وتجرد إلي مصادر المعرفة المتاحة حولنا، لوجدنا خواء وسطحية تكرس لها دون ترو وسائط إعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية، يصرخ فينا ويتطاول علينا عبر فضائياتنا أقل من فينا علماً وثقافة وذكاء ومعرفة، وقل لي بالله عليك كم من مئات قنواتنا الفضائية يقدم لنا برامج العلم والثقافة والمعرفة؟ لقد تخلفت بنا الريادة الإعلامية التي صدعنا بها صفوت الشريف ورجاله إلي مصاف بعيدة عما تقدمه فضائيات عربية أخري، هي علي ندرتها وقلتها تعبأ بكثير مما ينقصنا وما نحتاج إليه في إعادة صياغة الوجدان وتنوير العقل. وإذا ما نظرت إلي أغلب جرائدنا فتجد أنها لا تري مدي الضمور الذي آلت إليه صفحات الأدب والثقافة، لكأنها أضحت كما زائدة دودية يمكن الاستغناء عنها فلا أهمية لها، قياساً بصفحات الترويج السياسي والإعلامي وحتي »الكورة». ولعل البعض منكم لايزال يذكر أننا قرأنا في جرائدنا لعمالقة الفكر والأدب من أمثال زكي نجيب محمود ويوسف جوهر ونجيب محفوظ وحسين فوزي ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم ولويس عوض ولطفي الخولي ونعمان عاشور ومحمود أمين العالم ويوسف كرم وعثمان نوية، وأحمد زكي، وعبد الوهاب المسيري، جمال الغيطاني، بهاء طاهر، يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، وأمين يوسف غراب، عبد الرحمن الشرقاوي، ألفريد فرج، شكري عياد، سعد الدين وهبة، رجاء النقاش وعشرات غيرهم، ساهموا في تشكيل وعينا وأفكارنا وثقافتنا. ولا غرو مع كل هذا التصحر الفكري والثقافي، أن يري كل منا في أفكاره وآرائه، مهما بدت هزيلة ضامرة، أنه النموذج والمثال، لا شيء غيره.