عندما نتحدث عن العلم من جهة كونه كسبيا وكشفيا، فإننا نؤكد أن العلم المطلق لله وحده، حيث يقول سبحانه : »وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا»، ويقول سبحانه : »عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَي مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَي كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا»، ويقول سبحانه : »وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»، ويقول سبحانه: »إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».. وفي حق الخلق العلم نوعان : الأول كسبي، ويتأتي بالجهد والاجتهاد والتحصيل، وفيه يقول نبينا (صلي الله عليه وسلم) : »مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ». والنوع الثاني هو العلم الفيضي أو الكشفي أو اللدني، حيث يقول سبحانه: »وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»، ويقول سبحانه في شأن العبد الصالح المعروف بالخضر : »آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا»، ويقول سبحانه في شأن سيدنا سليمان (عليه السلام): »فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ»، ويقول سبحانه في شأن سيدنا يحيي (عليه السلام) : »وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا»، ويقول سبحانه في شأن سيدنا إبراهيم (عليه السلام): »وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ»، ويقول نبينا (صلي الله عليه وسلم) : »من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولم تزل هذه الأمة قائمة علي أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتي يأتي أمر الله»، وكان الصحابة يقولون لنبينا (صلي الله عليه وسلم) نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نعلم فمن علمك يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: »أدّبني ربي فأحسن تأديبي» والمراد بالتأديب هنا التعليم. ولما جاء وفد بني تميم إلي النبي (صلي الله عليه وسلم) قالوا : يا محمد جئنا لنفاخرك فأخرج لنا خطيبك وشاعرك، فلما تحدث خطيب رسول الله بزّ خطيبهم وتحدث شاعرهم فأجابه سيدنا حسان بن ثابت فأحسن وأبلغ وأفحم شاعرهم فقال القوم : والله إن هذا الرجل لمؤتي له »أي لموفق بمدد رباني»، لخطيبه أبلغ من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا. علي أننا نفرق بين العلم الفيضي أو الكشفي الذي يمن الله به علي عباده المتقين الصالحين الذين يعملون بما يتعلمون، وبين أدعياء الصلاح والتقوي والولاية، فالعلم الذي لا يبني علي معرفة أصول الشريعة وفروعها، وعلي الفهم الثاقب المستنير لدين الله (عز وجل) فهو علم الدخلاء والأدعياء الذي لا يعتد به ولو طار صاحبه في الهواء أو مشي علي الماء. ومن العلم الكشفي ما من الله به (عز وجل) علي العبد الصالح الذي ذكر العلماء أنه الخضر (عليه السلام) علي نحو ما قصه علينا القرآن الكريم في سورة الكهف عندما طلب منه موسي أن يأذن له باتباعه لينهل من علمه، وكان ما كان من الحوار بينهما : »حَتَّي إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا»، وحتي كان ما كان من قتل العبد الصالح للغلام وإقامته للجدار، وانتهي الأمر ليقول العبد الصالح لموسي (عليه السلام) : »قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا».. ولا شك أن ما ذكره الخضر لموسي (عليه السلام) ليس مما يتعلم من بطون الكتب إنما هو من العلم الفيضي أو الكشفي أو اللدني الذي يمن الله (عز وجل) به علي من يشاء من عباده الصالحين غير الأدعياء أو الدجالين، فالعالم الحقيقي غير دعيّ، والدعيّ غير وليّ.