»ليالي الشمال الحزينة ظلي اذكريني اذكريني« هذه الأغنية الجميلة لفيروز طالما سمعتها وأنا وحدي ساهر بعد أن نام كل من في البيت ونام كل من هم خارج البيت ويملؤني شعور غريب هو أنني وحدي في هذا العالم أتيت إليه الآن وليس قبل ذلك. ولم يكن ذلك إلا في ليالي الشتاء. سواء في الشمال - الإسكندرية - أو في الجنوب - القاهرة-. أنفقت الشتاء في حياتي مع الكتب. أقرأ أو أكتب فيما بعد. ذلك أن سنوات العمر الأولي بالاسكندرية كان فيها الشتاء حقيقيا فبعد نَوَّة «المكنسة» التي تأتي في آخرنوفمبر من كل عام كانت النوات لا تنقطع حتي نوة «عَوّة» الأخيرة التي يقال مابعدها نوة والتي هي غير ممطرة لكن تعوي فيها الرياح من شدتها. أسماء النَوَّات في بعضها شيئ من معني لما تحمله وفي بعضها مجرد خبر بلا معني يشير إلي الموعد فقط. فنوة «المكنسة» وهي الأولي جاء اسمها من قوة أمطارها التي كانت تسقط علي الأرض تكنس الشوارع وتتلقفها المجاري في اشتياق طال به الوقت حين كانت هناك مجاري خاصة بالمطر منفصلة عن مجاري الصرف الصحي ولم يقم الشيطان بجمعهما معا في مجري واحد وسمح بمخالفات المباني فصارت المجاري تعيد مافيها إلي الأرض.ونوة الميلاد أو نوة الغطاس تشير إلي موعدها فقط. كنت أفرح بالشتاء أكثر من فرحي بأي فصول السنة ففيه تكون الإسكندرية خالصة لأهلها. وأهلها زمان لم يكونوا بهذه الكثرة الكاثرة. كما أن الإسكندرية في الشتاء تنعم بدفء لا تنعم به القاهرة التي هي في الجنوب. والسبب طبعا أن القاهرة في الشتاء أقرب إلي المناخ الصحراوي. حارة أو دافئة بالنهار وشديدة البرودة ليلا. أما الإسكندريه فهي تقع تحت ما درسناه في الجغرافيا ، أعني نسيم البر والبحر. فالبحر الذي يتشبع بالحراة بالنهار يعود ليلا وينفث هذه الحرارة علي المدينة فلا يفارقها الدفء. لم أشعر ببرد حقيقي في حياتي إلا حين وفدت إلي القاهرة. وجدت ليلا مختلفا في الشتاء. باردا لم أتعوده لكني قاومته بالملابس الثقيلة ومشيت كثيرا في ليل القاهرة مدركا أني سأعثر فيه علي حكايات وقصص. تغير الحال ولم يعد الشتاء كما كان. تأتي النوات إلي الإسكندرية لكن لايكون المطر بكثافة الماضي. برد القاهرة لايزال علي حاله لكنه ابتعد ولم يعد يشغل أشهرالشتاء كلها. فقط بضعة أسابيع متفرقة قياسا علي ماكان يحدث من قبل. قرأت كثيرا عن الاحتباس الحراري في العالم ورأيت كثيرا التغيرات التي أحدثها الفساد في مصر ملخصة في ردم البحيرات الكبري وردم أو تغطية الترع مما أثر في الطقس أيضا لكن أحيانا أشعرأن الأمر أكبر من هذا.هل لم تعد الكرة الأرضية تدور في فلكها المعتاد حول الشمس. هل صارت تبتعد أكثر في الشتاء عن الشمس وتقترب أكثر في الصيف. أسأل نفسي وأضحك فخيالات الأدباء لا يجب أن تدخل حقول العلم وأعود أكتفي من الشتاء بالسهر والقراءة والكتابة. أسهر فيه أكثر مما أسهر في الصيف. ففي الصيف لايعد السهر سهرا فهو السلوك الطبيعي لكن السهر في الشتاء حيث كل شيئ يدعو إلي النوم والدخول تحت اللحاف. يطول ليل الشتاء حقا عن ليل الصيف لكن السبب الذي لا يراه أحد غير الساهرين هو تداعي الذكريات وطفو الشجن علي قمة الروح. الشتاء موسم عمل وإنتاج في كل الدنيا. البلاد الحارة يميل أهلها إلي الكسل. أوربا الباردة متقدمة اقتصاديا أهلها يخرجون مع الصباح بسرعة إلي أعمالهم ويعودون مع المساء ولاتري في الطرقات والشوارع من يسير علي مهل إلا السياح. الكل يركض تقريبا. نحن لم نتعود الذهاب إلي العمل في سرعة لأن الحر يتسيد طول العام. وبعيدا عن الجغرافيا والطقس مازلت مقتنعا أن المطر خير. هذا الاقتناع الذي جاء من الصحراء حيث لاتقوم الزراعة علي الأنهار وحيث يصلي الناس صلوات الاستسقاء حين ينقطع المطر ليأتي. أنا ابن المدينة شديد الاقتناع بهذا رغم ما نعانيه حين تسقط بعض الأمطار القليلة علي القاهرة من تزاحم الطرق وتوقف حركة السيارات. قد يتأخر الخير لكنه لابد أن يأتي يوما رغم أننا دمرنا أراضينا الزراعية وبعنا أراضي الصحراء للتحول إلي مزارع فتحولت إلي كومباوندات سكنية وأراضي للجولف. ورغم أننا دمرنا ساحلنا الشمالي الذي كان قديما به أراضي إنتاج القمح والشعير التي مع الأراضي الزراعية جعلت مصر سلة غلال العالم أيام الامبراطورية اليونانية والرومانية ولم نفكر أن نعيده كذلك بل جعلناه مدنا سياحية يهجرها أصحابها طول العام فتبدو خرابات منسية من قبل التاريخ! ما زلت مقتنعا أن المطر خير والشتاء فصل المطر ويوما ما سيعود الخير وسيضيف إلي ذاكرتنا ماهو جميل ولهذا الوطن رغم من يخربونه.