تنتفض الكثير من القوارب الراسية فى مشهد بانورامى أمام ميناء الإسكندرية ببحرى. يهرول فريق من الصيادين لإسقاط الهلب الخاص بالعواصف والنوات، إذ يصل وزنه إلى مائة كيلو، فى مقابل 15 كيلو فى الأوقات العادية. نوة «الشمس الكبيرة» تهب عادة على المدينة فى نهاية شهر مارس من كل عام وتمثل درجة متوسطة من الخطورة، فالأمطار المتقطعة تهطل مع سطوع قرص الشمس، ومن هنا جاء اسمها. يختلط صوت الأمواج التى ترتطم بالشط مع أزيز ماكينات السفن والقوارب التى تظل تعمل طوال اليوم أى لمدة 24 ساعة دون توقف حتى تنتهى النوة، لأن ذلك يحميها من أن يجرفها التيار، ويكسبها نوعا من الثبات. يتناوب طاقم الصيادين والمراكبية على متن قارب فى ثلاث ورديات على مدى اليوم، بينما يمر كبار ومشايخ المهنة بين الحين والآخر لكى يتفقدوا الحال فى الميناء. يقول أحمد أبوعمرو، الصياد الأربعينى، الذى يعمل بالبحر منذ ثلاثين عاما: «وقت النوة قد يتكلف الصياد فى اليوم الواحد ألف جنيه، كثمن لوقوف المركب فقط وتأمينه، لأن إناء الوقود يصل ثمنه إلى 120 جنيها، فضلا على أجر الرجالة وقوت يومهم». على الرصيف المقابل يجتمع الصيادون، كل صباح، مع أصحاب المراكب فى حديث لا ينقطع حول الاستعداد لنوة «عوا» التى ستأتى فى مطلع أبريل، عقب نوة «الشمس الكبيرة»، إذ تشكل هذه الأخيرة فترة هدنة مؤقتة قبل مجىء أعتى النوات وآخرها. يجهز فريق آخر من الصيادين عدد أكبر من القطع المعدنية لمواجهة «العوا». يستطرد أبوعمرو: «خلال النوة نسقط سبع قطع معدنية فى المياه لأن الموج والهواء يكونان عاتيين لدرجة قد تحمل القوارب لتهشمها على الصخور. فحجم الخسائر عام 2010 كان مريعا».
القلق يسود، فرغم مرور نوة «قاسم» العاتية فى شهر ديسمبر الماضى بسلام، يحبس العديد من الصيادين أنفاسهم قبل نهاية موسم النوات. «عوا ما بعدها نوة، لكى تمر قد تكسر ظهورنا. هى أعفش نوة فى الشتاء»، كما يقولون هنا.
فى موسم الشتاء يبدو أن المجتمع السكندرى يستلهم طقوس ومفردات حياته اليومية من لغة البحر، كما لو كان يتبادل معه الرسائل، فالمدينة الساحلية تبدو كالسفينة التى تغدو وترسو بما تمليه عليها أحكام النوة. الصيادون الذين يشكلون قطاعا لا يستهان به للمدينة يضطرون لإنزال الهلب وقت النوة، وينتظرون أن تمر العاصفة، فقد تعودوا ألا يكابروا البحر عندما تعلو أمواجه.
تتحرك أنامل عم حسن، الصياد السبعينى، بشكل متناغم على أوتار الغزل المتراكم أمامه. استغل الصياد العجوز نوة «الشمس الكبيرة» لكى يقوم بتجديد «الفرجات» أو الشباك اللازمة لصيد الجمبرى والكابوريا، إذ يبدأ موسمهما بعد نوة «العوا» فى منتصف أبريل، عندما تستعيد مياه البحر شيئا من الدفء. يحتاج حسن لقرابة 20 «فرجة» للصيد لأن قاربه المتواضع يتحرك بمجدافين، أما القوارب الكبيرة فتحتاج لمئات «الفرجات»، لذا فهو يقوم بتقسيم الغزل ما بين نوتى «الشمس الكبيرة» و«عوا».
«فى موسم النوات، يكون البحر بالنسبة للصياد كالدكان المغلق بالنسبة للتاجر، بصيغة أخرى وقف حال»، هكذا يمضى الصياد العجوز فى حديثه، وهو يجهز عدته قبل أن رفع الهلب.
الدرس الأول: لا تكابر البحر
إذا كان السواد الأعظم من الصيادين يفضلون احترم قواعد البحر وقت العاصفة، إلا أن البعض يختار المقامرة والسباحة عكس التيار. يروى أشرف صلاح: «الكثير من الصيادين من الأرزقية يعيشون اليوم بيومه، لديهم أفواه مفتوحة لا تقدر على انتظار انتهاء المواسم والنوات، خاصة وأن لا أحد يعطى للصيادين بدل إعاشة أو تعويضات فى مثل هذه الظروف». غرق مركب هذا الصياد الخمسينى مرتين بسبب إصراره على مناطحة أمواج النوة. ويتذكر أشرف صلاح بنوع من الإجلال: «المرة الأولى التى شارفت على الموت كانت عندما خرجت للصيد وأدركتنى نوة عوا (أشرس النوات!) على حدود بنى غازى، مات كل من على المركب، أما أنا فاحتميت بأنبوبة بوتاجاز مكنتنى من الصمود حتى انتهت النوة». معركته الثانية كانت خلال نوة «قاسم»، حين أدركته بالقرب من قلعة قايتباى، لكن «تمكنت من السباحة لأن المسافة لم تكن بعيدة». بعد هاتين التجربتين تعلم الصياد ألا يكابر البحر، هو الآخر، إذ تصل أمواجه إلى سبعة أمتار.
أحيانا تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، وحينها يغير المواطن السكندرى الدفة.. ترفع الراية السوداء فى معظم الأحياء التى تضربها أمطار النوة. على أحد مقاهى حى السيالة، تملأ رائحة المشاريب الساخنة المكان وتختلط بنكهة المطر. يتجول النادل فى رشاقة بين الطاولات، وهو على استعداد أن يغلق أبواب المقهى أمام الزبائن إذا اشتدت النوة. تكتسى أسطح المنازل بغطاء بلاستيكى، ينصبه الأهالى قبل موسم الشتاء لحماية المنازل من الأمطار.
فى أزقة بحرى التى تسبح على بحيرات ترتفع وتهبط، يبدو أن الأهالى قد تعلموا من خبرات الأعوام الماضية، فتلك الأحياء العتيقة طفت عام 2010 على بركة من الماء والطمى، وقام سكانها بتعلية أعتاب الحوانيت والمنازل حتى لا يصلها الماء. ومع ذلك فمنطقة بحرى وأبوقير، على أطراف الإسكندرية، تعتبر الأكثر تضررا، لأن البحر يحيط بتلك المنطقتين من جميع الجهات. «العديد من سكان بحرى يتفادون قضاء مشاويرهم خلال النوة لأن السير داخل الأزقة الضيقة يكون مهمة شاقة جدا»، هكذا علق محمد معيزة، الموظف بإحدى شركات القطاع العام، مؤكدا أن دولاب المواطن السكندرى يختلف عن نظيره فى جميع المحافظات، فلابد أن يحتوى على واقٍ من المشمع ليحميه من الأمطار وحذاء له عنق كى يتمكن من السير فى الماء والطمى.
الدرس الثانى: المحمول ضد الصواعق
هناك ثلاث ثغرات تصل منها مياه البحر إلى الشارع العام، هى: المندرة، أمام شيراتون المنتزه، ومنطقة بئر مسعود، ومحطة الرمل. عربة شفط الماء تقطع الكورنيش ذهابا وإيابا، فهى إحدى المفردات الأساسية للمشهد أثناء النوات. تتعالى نغمات أغنية إليسا «أواخر الشتا» من إحدى السيارات المهرولة.
تفضل السيدة ميرفت أن تتحصن ببيتها فى بئر مسعود، فهى تصغى لتعليمات خبراء البصريات الجوية الذين يحذرون من الوجود فى أماكن خلوية أثناء الرعد، ويوصون بالابتعاد عن الأشياء المعدنية. وعلى مدى السنوات طورت مجموعة من الطقوس تقوم بها لتحتمى من غضب البحر: تفصل الأجهزة الكهربائية بالمنزل، وتبتعد تماما عن الشرفات والشبابيك، وتفضل استخدام الهاتف المحمول لأن التليفون الثابت قد يتأثر بالتيارات الكهربائية التى تتولد من الصواعق! وهى تروى كيف كانت نوة عام 2003 قوية جدا، لدرجة أنها دمرت بالكونات عدة شقق ودفعت بسيارة لمسافة أربعة أمتار، «ما اضطرنى لأن أغير مسكنى من الطابق الأرضى إلى الرابع بالعقار نفسه».
فى محيط الميناء ببحرى، بدأت طيور النورس تتفرق، بعد أن كانت تحلق فى حالة هياج، إيذانا بقدوم نوة «الشمس الكبيرة». تنفرج أسارير وجه عم حسن، ويقول: «بكره عِدل، سيكون البحر صغير ومن الممكن أن نسرح». يقرأ الصياد العجوز لغة البحر، يلملم غزله ويعلق: «ربما يكون هذا الطائر الصغير هو دليلنا فى البحر. فالقصة التى تبدأ بتظاهرات النورس تنتهى أيضا برحيله»، مع انتهاء موسم النوات.
أجندة
تعتبر نوة رأس السنة التى تتزامن مع ميلاد عام جديد هى النوة الأولى للعام، وعادة ما تحمل للإسكندرية هدية السنة الجديدة من أمطار تستمر لمدة يومين. وبعد عيد الميلاد بيومين فقط، تأتى «الفيضة الكبيرة» شأنها شأن قريناتها من جهة الغرب. وقبل عيد الغطاس بيوم، تهب نوة الغطاس التى تستمر أمطارها لمدة خمسة أيام. أما رياح نوة الكرم الممطرة، فتعتبر الأطول وتصل مدتها فى بعض الأحيان إلى أسبوعين. وتتميز نوة «الشمس الصغيرة»، التى تأتى يوم عيد الحب، بأنها ممطرة على عكس نوة «السلوم» التى تعقبها والتى قد لا تحمل المطر عندما تزور الإسكندرية فى مطلع شهر مارس.
وربما تحسم نوة «الحسوم» التى تستمر لمدة 8 أيام محملة بالمطر الصراع بين نوتين شقيقتين الشمس الصغيرة والشمس الكبيرة، وذلك قبل نوة عوا، الأشرس والأعنف، حيث تصل سرعة الريح إلى 33 عقدة وتستمر بزعابيبها لمدة 5 أيام فى مطلع شهر أبريل. وقد لا يأتى بعدها نوة طيلة فصل الصيف حتى يأتى الخريف فى نوفمبر بنوة «المكنسة» التى تكنس البحر لمدة ستة أيام، استعدادا لموسم الشتاء الذى تبدأه نوة «قاسم» الممطرة فى مطلع شهر ديسمبر قبل أن تغرق الإسكندرية بصغرى الفيضتين: نوة الفيضة الصغيرة التى تستمر من 13 إلى 21 ديسمبر، قبل أن يختتم العام بآخر نواته التى تحمل اسم «عيد الميلاد» فى 31 ديسمبر.حكاية وراء كل نوة
«مكنسة قاسم حسمت الحسوم وجعلت عوا لا يأتى بعدها نوة، ونادى الصياد على ابنه قاسم الذى كنسه البحر ولم يَعُدْ قاسم أين أنت يا قاسم؟ لا يجيب قاسم ولن يعود ولكن نوته تعود، ومن قبلها المكنسة ومن بعدها تأتى الكرم»، هكذا يلخص محمود- من أهل الإسكندرية- العبارة التى ورثها عن أبوه كى يعلمه أسماء النوات المختلفة. فى هذا المناخ الممطر العاصف، تحمل النوات ثقافتها من جيل لآخر. يحفظ الكثير من الصيادين عن ظهر قلب مواعيد وأسماء وقصص النوات. ويتناقلون هذا التراث الشفهى من الجد إلى الحفيد، فمنذ نعومة أظافرهم، تحكى لهم الجدات، خاصة فى بيوت الصيادين، حكاية ابن الصياد قاسم الذى غرق عند البوغاز أثناء هبوب نوة، وكيف أخذ الصياد ينادى على ابنه الذى ابتلعه البحر؟.. تأثر الصيادون بهذا الحادث تأثرا كبيرا وأطلقوا اسم «قاسم» على النوة. أما أسطورة «المكنسة» فتروى أن النوة سُميت بهذا الاسم لأنها تكنس البحر من أعماقه وحتى سطح المياه، بسبب التيارات البحرية الشديدة وارتفاع منسوب الأمواج، فضلا عن أنها تفصل الشتاء والصيف. ونوة «الكرم» التى تأتى فى نهاية شهر نوفمبر، فهى وفقا لكلام عم حسن، الصياد العجوز، «نوة كريمة فى أمطارها الغزيرة التى تغرق شوارع الإسكندرية بالكامل، ونظرا لطول أيامها التى قد تصل لأسبوعين لا يستطيع أحد وقت (الكرم) بلوغ البحر». وربما لا يضاهى أمطار نوة «الكرم» سوى نوة «الفيضة الكبيرة» التى تتزامن مع عيد الغطاس. وقد سميت هذه النوة بهذا الاسم لأن البحر يفيض فيضا ويزداد الموج ويعلو فيكون مثل الجبال ويقلب المركب. فى شهرى فبراير ومارس تأتى نوات الشموس، فتهب «الشمس الصغيرة» متسللة قبيل الربيع، كى تبشر بانتهاء فصل الشتاء. وقد سميت كذلك لأن قرص الشمس يكون صغيرا فى هذه النوة، بينما يزداد حجمه فى نوة «الشمس الكبيرة» التى تأتى مع بداية الربيع فى حوالى 22 مارس. وبين الشمسين الصغيرة والكبيرة تهب نوة «الحسوم»، كما يؤكد محمد، صياد لا يتجاوز عمره السابعة عشرة، فلقد حكت له أمه أنها «نوة مذكورة فى القرآن، لذا فلها هيبتها».