أظن أنه عدا حشود الغلابة في عقولهم والمهاويس المجانين، لن تعثر الآن بين سكان هذا الكوكب علي أحد لم يداعب خواطره إحساس بالخطر علي منجزات الحضارة الإنسانية بعد صعود الملياردير البذئ المتفوق في الجهل والجلافة دونالد ترامب، إلي سدة حكم الأمبراطورية الأفدح قوة في عالمنا الراهن.. الولاياتالمتحدةالأمريكية. لم يكمل ترامب أسبوعين في الحكم حتي الساعة، لكنه داهم البشرية بسلسلة من القرارات الهوجاء التي تشي بعزمه تنفيذ الشعارات الخرقاء التي قرع بها أسماع الدنيا ولعب بها علي أحط غرائز جمهوره البائس أثناء حملته الانتخابية. قبل أن يدخل ترامب البيت الأبيض كان بعض المتحذلقين يستهينون بخطر الظاهرة »الترامبية» ويجاهرون بالرهان علي أن الرجل عندما يستقر في قلب المسئولية سوف يتحلي بقدر ولو محدود من الرشد، ومن ثم لن يقدم علي بناء جسر تعبر عليه شعاراته الصارخة المحلقة في أعلي سماوات الجنان الرسمي، إلي أرض الواقع المعيش، غير أنه بسرعة وحماقة غير مسبوقين أسقط رهان هؤلاء وصدم البشرية بأن شروره وخطرفاته العنصرية تحولت فعلا إلي قرارات وسياسات جعلت الكارثة التي تهدد البشرية ليست مجرد احتمال قوي، وإنما حقيقة ثقيلة تتجسد كل يوم بقرارات منحطة وسياسات تنز بالعنصرية في أنقي صورها وأكثرها فجاجة وفظاعة. هذه المقدمات والأسباب ربما أهمها اندفاع النظام الاقتصادي الرأسمالي نحو طور ونمط جديد من النشاط الربحي استفاد من منتجات العلم فصار أقل إنسانية وأشد وحشية وراح ينتج كل لحظة ثروات فاحشة تلامس حدود الخرافة لكنها تتركز بشدة وتتدفق في كروش وجيوب حفنة قليلة وضيقة جدا من الناس، وفي المقابل اتسعت باطراد دائرة الإفقار والبؤس المادي والعقلي والروحي لكي تشمل أغلبية كاسحة من البشر، وكانت النتيجة واقعا إنسانيا غريبا وعجيبا وغير مسبوق، ترسم ملامحه تلك المفارقة الصارخة الراهنة : إذ فيما توصلت مسيرة الترقي الحضاري الطويلة إلي قيم ومبادئ ثمينة (الحرية والمساواة والعدالة) بدت مستقرة في الضمير الجمعي لسكان كوكبنا، غير أن النظام الاقتصادي الذي فرض نفسه علي مجتمعنا الإنساني كله أشاع اليأس والخوف وراح يهمش الثقافة ويحرض علي الجهل ويهيج أحط الغرائز المناقضة تماما لقيم ومبادئ التحضر. وبمناسبة »ثقافة الخوف» التي تعيش وتقتات عليها »الترامبية» القبيحة وإخوتها (خصوصا في أوروبا والغرب عموما) فإن لمجتمعاتنا العربية والإسلامية إسهاما قويا وخطيرا ولا يمكن إنكاره في إنعاشها وإلهاب نيرانها.. لقد تسامحنا كثيرا مع بؤسنا الشامل (اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي وتربوي) وتغاضينا طويلا عما أنتجه هذا البؤس من عقائد منحرفة وجماعات إجرامية استعملت الدين وشعاراته كسلاح ناسف للعقل وأداة لتشويه الروح وسحق الأخلاق والانفلات من روادع التحضر وقيم التقدم كلها، وكانت النتيجة أن العنف والقتل والتخريب والهمجية، فاضت وعبرت حدودنا وبلغت قلب مجتمعات وبلدان أخري عديدة، روعتها واستنفرت أسوأ غرائز قطاعات واسعة من سكانها. إذن مشاركتنا في المسئولية عما يداهم العالم حاليا مع ترامب وباقي ظاهرة الفاشية الجديدة، أمر مقطوع به ويفرض علينا واجب أن نكون في مقدمة صفوف ملايين البشر الذين بدأوا فعلا عملية مقاومة صلبة ونشطة وواسعة جدا (في أمريكا نفسها، وأوروبا ومناطق أخري كثيرة) من أجل دحر هذه الظاهرة الكارثية وهزيمتها وكف أذاها عن كوكبنا. أما أهم واجباتنا وأكثرها إلحاحا الآن، فهو أن نجاهد أنفسنا لكي نتجنب الوقوع في خطيئة تملق هذه الظاهرة المجرمة ونفاقها ومحاولة التعايش معها.