السطور التي ستقرؤها حالا كتبتها لكي تنشر هنا الأسبوع الماضي، لكن تأجل نشر صفحات الرأي لضيق المساحة، لهذا قد يبدو المقال وكأنه »ادعاء للحكمة بأثر رجعي».. فأعتذر مقدما: تقرأ الآن هذه السطور، وقد عرفت مع الدنيا كلها، اسم الشخص الأكثر تأثيرا في عالمنا الراهن، الذي هو طبعا رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية للسنوات الأربع المقبلة.. لكن العبد لله وهو يكتب هذه الكلمات لم يكن يعرف الفائز في أكثر انتخابات رئاسية أمريكية ضجيجا وغرائبية، فضلا عن البذاءة والفضائحية غير المسبوقتين. فقط تابعت نتائج آخر استطلاعات للرأي والتي سجلت ميل الناخبين الأمريكيين، بفارق ضئيل جدا، إلي ترجيح كفة المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون الابنة الشرعية ل »المؤسسة» الحاكمة في واشنطن، علي منافسها الجمهوري دونالد ترامب السابح في أعلي سماوات اليمين الفاشي والمسرف في الجلافة (تستطيع أن تقول »الصيَاعة»)، بما يجعل احتمال وصول هذا الأخير إلي سدة الرئاسة كابوسا لكنه ليس مستحيلا أبدا، ولاهو بعيد عن أن يداهم كوكبنا، بكل أسف. لقد أظهرت الحملة الانتخابية الأمريكية الأخيرة حقائق خطيرة في بلد تفيض مآثره كما كوارثه وبلاويه خارج حدوده إلي العالم كله، أولها وأهمها، ذلك التناقض الفاحش والفراق الكبير بين كتلتين وتيارين بائسين يتصارعان بقوة وقسوة في مجتمع الامبراطورية الأمريكية حاليا، فأما عن »البؤس» فإن أوضح مظاهره أن المرشحين الاثنين(هيلاري وترامب) لم يتنافسا انتخابيا فحسب، وإنما سابقا بعضهما في استقطاب نسبة كراهية شعبية نادرة. التياران، أولهما يمثل المؤسسة الحاكمة العائد عمرها إلي فجر تأسيس الدولة الأمريكية قبل أقل من قرنين ونصف القرن، وهو تيار شبه موحد (أيديولوجيا) رغم تنوعه وتوزعه علي حزبين كبيرين (الديموقراطي والجمهوري)، غير أنه بدأ في العقد الأخير يعاني من وهن وأعراض شيخوخة نتج عنها شيء من التصدع والتشقق الذي ربما مَر منه الرئيس الأسود المنتهية ولايته باراك أوباما، بيد أن »الأوبامية» لم تستطع ولا كانت كافية لإدخال تحديث وتغيير دراماتيكي في طبيعة هذا التيار وآلياته والانحيازات التقليدية لنخبته إلي الفئات والطبقات الأكثر تعليما وقوة مالية واقتصادية، والأوسع نفوذا ضمن تنوعات الثقافة والفكر في المجتمع الأمريكي، وربما هنا مكمن بؤس تيار »المؤسسة» وتراجع قوته. أما التيار الثاني الذي يجسد »دونالد ترامب» أقبح تجلياته، فهو يزايد في التطرف اليميني علي أسوأ مكونات مؤسسة الحكم الأمريكية العتيدة، لكنه يستمد قوته من مصدرين معروفين ومتكررين في تاريخ المجتمعات الإنسانية الحديث، ابتداء من ألمانيا النازية في النصف الأول من القرن الماضي حتي مصر في مطلع العشرية الثانية من القرن الحالي.. أول المصدرين، تضعضع الطبقة الحاكمة تحت وطأة فشلها وفسادها، والثاني توسل الفاشيين بخطاب شعبوي فارغ وسطحي يداعب غرائز جحافل بسطاء الناس ويلعب علي ضعف إدراكهم ونقص تعليمهم وتشوه وعيهم (في الحالة الأمريكية استهدفت »الترامبية» الفقراء البيض تحديدا)، ومن ثم ينجح تيار الفاشية في استثارة حماس هذه الجحافل وتهييج مشاعرها، تمهيدا لحشد وتعبئة أصواتها في صناديق الاقتراع. لعلك لاحظت، عزيزي القارئ، أنني أشرت في الفقرة السابقة إلي أن مجتمعنا المصري عرف هذه »الثنائية» المميتة، وتجرع المُر من تنافس طرفيها، حتي تأخر وتخلف وضرب البؤس الشامل في جنباته، بل كاد يضيع في غياهب ظلمات الفاشية التي تجلت في »عصابة الإخوان» ومشروعها الطائفي الموغل في التأخر. لقد شاهدت أجيالنا المعاصرة، كيف كان الصراع والتنافس حامي الوطيس بين عصابتين، أولاهما فاسدة وفاشلة تحكم وتهيمن علي المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وعصابة أخري تفوقها بشاعة وتطرفا في الظلم والظلام.. لكنهما تبادلتا المنافع، فبينما العصابة الأولي استخدمت الثانية (بل وحافظت عليها ووفرت البيئة الملائمة لتضخمها وتغلغلها في المجتمع)، فإن الثانية تذرعت بالفساد وشيوع النهب لكي تتمكن من خداع قطاعات من البائسين وراحت تدغدغ عواطفهم بشعارات كذابة ومخاتلة، من نوع »الإسلام هو الحل»، حتي إذا ما أتت الفرصة بعد أن أطاحت ثورة يناير بنظام »الأستاذ حسني مبارك وولده» من دون أن يكون المجتمع ونخبته جاهزين ل »اليوم التالي»، ملأ الإخوان الفراغ وقفزوا إلي سدة الحكم عبر »غزوة صناديق» استعانوا فيها بكتل اليائسين والبائسين الذين تشوهت عقولهم وطال انتظارهم للخلاص من الظلم، ولم يساعدهم الوعي الزائف في تجنب الخطر الوجودي الداهم، الذي سرعان ما تبدي أمام أعينهم جليا واضحا بعد شهور قليلة من آخر »غزوات الصناديق» التي انتهت بدخول محمد مرسي قصر الاتحادية، قبل أن تخرجه منه عنوة (بعد عام واحد بالتمام والكمال) ملايين هائلة ممن انتخبوه. باختصار.. ومع مراعاة الفارق الضخم في التفاصيل بين الحالتين المصرية والأمريكية، فإن المشهد في بلاد العم سام يبدو مشابها لمشهد بلدنا في صيف العام 2012.. وربنا يستر.