من أسبوعين وقبل ساعات قليلة من بدء تقاطر الناخبين البريطانيين علي مراكز الإقتراع للمشاركة في استفتاء يجيب علي السؤال الوجودي: هل تبقي «المملكة المتحدة» في البيت الأوروبي أم تغادره للأبد؟ كانت حملات الداعين للبقاء وخصومهم المحرضين علي الخروج، قد بلغت ذروتها واستعان الطرفان بكل الحيل لكسب قلوب الناس وعواطفهم، أما عقولهم فكانت مهملة وقابعة في الترتيب الأخير. غير أن أطرف وأرق وسائل الدعاية التي لجأت إليها إحدي جماعات المنتصرين لقيم ومبادئ الانفتاح والتآخي الإنساني ونبذ التقوقع والعزلة ومن ثم البقاء في فضاء القارة الأوروبية، بدت مجسدة في بضع سلاسل بشرية التأمت متزامنة في أهم ساحات مدن لندن وباريس وبرلين وروما، إذ راح المشاركون فيها يتبادلون القُبلات الحارة علي قارعة الطريق كناية عن نبذ الأنانية والكراهية والتعالي فوق «المشاعر الغرائزية» والبدائية التي هيجتها قوي اليمين المتطرف وقطعان العنصريين، ومن ثم تمكنوا في النهاية من جرجرة أكثر قليلا من نصف الشعب البريطاني للتصويت بنعم لمغادرة بلادهم الاتحاد الأوروبي من دون أدني اعتبار لمخاطر وكوارث لم تتأخر بشائرها التي راحت تتري بسرعة البرق فور إعلان نتائج الاستفتاء. مهرجان «تبادل القبلات» علنا بين أشخاص لا يعرفون بعضهم، نظمته حركة شعبية عالمية تدعي «آفاز» avaaz (يقول مؤسسوها أنها صارت تضم ملايين الأعضاء من أغلب بلاد الدنيا) تناضل عبر فاعليات سلمية لا تخل من رقة ولطف من أجل العدالة والمساواة بين البشر وسلامة وجودة البيئة علي الكوكب الذي نعيش فيه.. هذه الحركة قالت في بيان أصدرته قبل المهرجان أنه يستهدف تذكير جموع البريطانيين بإنسانيتهم قبل الذهاب إلي صناديق الإقتراع، وإبلاغهم رسالة ملخصها أن التصويت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي « هو تصويت ضد الكراهية والانعزال والعنصرية، وانتصار لقيم المحبة والتسامح والحفاظ علي وحدتنا ضمن التنوع والثراء». طبعا، ما حدث أن الغريزة انتصرت علي العقل والقيم معا، كما أن «الانعزال» صرع الوحدة إذ لم يتشتت فقط الصف الأوروبي بهذا الاستفتاء، وإنما بدا المجتمع البريطاني نفسه منقسما ومنشطرا علي نحو خطير وربما غير مسبوق، كما تشي الأنباء التي راحت تتدفق من عاصمة البلاد بغزارة منذ إعلان نتيجة الاستفتاء وحتي الآن، وبدا واضحا أن القوي الرجعية الهرمة (لابد من ملاحظة أن الأجيال الشابة صوتت أغلبيتها الساحقة لصالح البقاء في الأسرة الأوربية) ودعاة العنصرية والكراهية، تتقدم في أوروبا وأمريكا وتنتزع مساحات ثمينة من منجزات مسيرة التحضر الإنساني الطويلة. غير أنني لا أكتب هذه السطور لكي «أفتي» في قضية أزمة خروج المملكة المتحدة من مؤسسة الوحدة الأوروبية، ولا لأتنبأ بمخاطر صعود الفاشيات الغربية تحت وطأة حزمة من العوامل والأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (كما ليس بعيدا عنها ما أفزره بؤس مجتمعاتنا الشامل من ظواهر وعصابات إرهاب وبربرية)، لكني أتذرع بهذا الموضوع للتأكيد علي أن الديموقراطية ليست حفنة آليات ووسائل (انتخابات واستفتاءات وخلافه) إذا استدعيت وجري استخدامها تحققت غايتها الأصلية أي «الحرية» و»التقدم».. الديموقراطية الحقة هي في جوهرها قيم ومبادئ راقية قد تأتي الآليات المذكورة، أحيانا وفي ظل ظروف معينة، بنتائج تعاكسها وتنتهكها بقسوة وفظاظة وغلظة. التاريخ الإنساني الحديث (وتاريخنا وواقعنا أيضا) متخم بنماذج ووقائع تؤكد هذا المعني، يكفي أن نشير إلي بعض أشهرها، مثل أن الحزب النازي صعد بالانتخابات إلي سدة الحكم في ألمانيا وكبدها وكبد البشرية عشرات ملايين الأرواح، فضلا عن خراب وتدمير هائلين، كما أن عصابة «الإخوان» كبست علي صدورنا لمدة عام كامل وكادت أن تختطف الدولة والمجتمع وتذهب بهما إلي مهاوي التأخر والظلام والاحتراب الأهلي، بعدما تسربت وتسللت كذلك، من بين أوراق صناديق الإقتراع. باختصار، الانتخابات وحشد جموع الناس أمام «الصناديق» من دون توفير بيئة حرة ونقية من ضغوط وأدران خطيرة تلوث وعي الناس وترتد بهم إلي البداوة العقلية ومن ثم تسلبهم القدرة علي الاختيار الرشيد، ليس ديموقراطية ولا يمت لجوهرها بأية صلة، بل قد يكون طريقا للنكوص والفشل والابتلاء بكوارث عظيمة. ثم أن، القيم العليا والمبادئ الراقية ليست موضوعا لأي استفتاء ولا يجب تعريضها لمنافسة انتخابية بحيث يفاضل الناس بينها وبين أفكار ومعان مفرطة في القبح والسوء.. يعني مثلا، لو وضعنا قيمة «الشرف والنزاهة» مقابل «اللصوصية» وفازت الأخيرة بأصوات أكثر في الصناديق، هل نبجل ونحتفي بالحرامية ونحشر الشرفاء في السجون؟! كل عام وأنتم بخير