السيرة النبوية الشريفة عامرة بمواقف الحب الذي نفتقده هذه الأيام، فبدون الحب لايقوم نظام، ولا يستقر حكم، ولا تنتظم أسرة ولايرتقي مجتمع، ولهذا عُني القرآن الكريم بأسباب الحكم، وحض علي التمسك بها، وفي ذلك قوله لرسوله الكريم: »خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين«. ومع حلول ذكري الهجرة النبوية الشريفة نستعرض صفحات من سيرته العطرة [ لتكون نبراسا للنفوس البشرية للارتقاء بمكارم الأخلاق، ونبذ الكراهية والأحقاد التي سادت »للأسف الشديد« هذا العصر المادي الكريه، وقد سطرها باقتدار الكاتب الصحفي الكبير فتحي الإبياري في آخر مؤلفاته: »محمد نبي الحب والسلام«.. ما أرخص الحب إذا كان كلاما، وماأغلاه إذا كان قدوة وفعلا، وكان رسولنا الكريم محمد [ يلخص رسالته فيقول: »المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب مذهبي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والحزن رفيقي، والصبر ردائي، والصدق شفيعي، والعلم سلاحي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة« وكان [ يطبق مبادئ الحب والعفو والتسامح فعلا، لا قولا، فقد جاء في السيرة النبوية الشريفة أنه لما كُسرت رباعية نبع الحب [ وشج رأسه يوم أُحد، شق ذلك علي أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم؟.. فقال الرسول الكريم [: إني لم أُبعث لعانا، وإنما داعيا ورحمة، اللهم أهد قومي فإنهم لايعلمون! نبع الحب العظيم لقد أرسل الله تعالي الرسل والأنبياء من خلق الخليقة إلي مختلف الشعوب في مختلف العصور، وكان محمد [ نبع الحب في هذا الوجود خاتم المرسلين. ظهر النبي [ في وقت كان العرب فيه قد هووا إلي الحضيض، كانوا مفككين لا رابطة بينهم، وحاولت اليهود أن تهودهم فما استطاعت، وباءت أيضا محاولات المسيحية، وخابت كذلك الحنفية التي ظهرت ظهورا ضئيلا! ولكن رسالة الحب التي حملها الله سبحانه وتعالي لنبع الحب في الوجود، والذي أرسل هدي للعالمين، اقتلعت جميع العادات الفاسدة في جزيرة العرب، في خلال عشرين عاما بمعجزة من الله سبحانه وتعالي، يقول عز من قائل: »وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ«. لقد نزل الرسل وفي يد كل منهم مشعل من نور الهداية، وماكانت هذه المشاعل لتضيء إلا أفقا خاصا، ولكن ما إن أشرقت شمس الإسلام.. والحب.. وحتي بهرت هذه المشاعل، وأصبح نورها وحده كافيا لإنارة السبيل أمام العالم، حتي يرث الله الأرض ومن عليها! جمع كل الأنبياء لقد جمع النبي محمد [ نبع الحب في هذا الوجود.. جميع الأنبياء السابقين، فكانت فيه رجولة موسي، ورحمة هارون، وصبر أيوب، وجرأة داود، وعظمة سليمان، ووداعة يحيي، وتواضع المسيح. لقد كان يتيما وحيدا، لاحول ولاسلطان، فأصبح نبعا للحب.. للبشرية جمعاء، بالقرآن الكريم.. وبالسُنة النبوية الشريفة. ومن التعاليم المحمدية أن المرء لايكون إنسانا كاملا، وحرا طليقا، إلا إذا تحرر من عبوديته خمس صفات: الشهوة، والغضب ، والطمع، والتملك، والغرور، وهذه الصفات التي غرسها الرسول الحبيب [ في نفوس المسلمين كلها من أضداد الحب وأنداد البغض، ولهذا عني القرآن الكريم بأسباب الحب، وحض علي التمسك بها: »وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ«؟ وقد ضرب [ المثل الأعلي لأصحابه في حسن السلوك، وطيب المعاشرة، وكريم الصفح والعفو، لما آتي عليه الصلاة والسلام بسبايا طيئ، وقفت جارية في السبي فقالت يامحمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب .. فإني بنت سيد قومي، وإن أبي يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب الحاج، أنا ابنة حائم الطائي! حب مكارم الأخلاق فقال [: ياجارية هذه صفات المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلو عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وإن الله يحب مكارم الأخلاق.. وعن معاملة الرسول [ لآل بيته من النساء ذكر الأديب والكاتب الكبير فتحي الأبياري في كتابه: وعن أبي هريرة ] عن النبي [ قال: استوصوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ خُلقْنَ مِن ضِلَع، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضلع أعلاه، فإنْ ذَهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزلْ أعوج، فاستوصوا بالنِّساء خيراً« وعن عائشة رضي الله عنها قالت.. قال لي رسول الله [ إني أعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبي.. قالت: من أين تعرف ذلك؟ قال [: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت غضبي.. قلت.. لا ورب إبراهيم! قالت رضي الله عنها: أجل والله يارسول الله. إنسانية الرسول [ وللرسول الكريم مواقف كثيرة عن إنسانيته وبشريته، فعندما كان ابنه إبراهيم وهو لم يكمل العامين يجود بأنفاسه بين يديه.. قال أنس بن مالك] دخلنا علي الرسول الكريم، وإبراهيم يجود بنفسه بين يديه وكانت عينا الرسول الكريم تذرفان بالدمع فقال له عبدالرحمن بن عوف ] وأن تدمع يارسول الله..؟ فقال[: ياابن عوف.. إنها رحمة.. فأتبعها بأخري قائلا: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولانقول إلا مايرضي ربنا.. وإنا بفراقك ياإبراهيم لمحزونون.. وهذا الموقف يدل علي الرحمة ويبين إنسانية الرسول [. ما أعظم هديك.. وعظيم حزنك.. ياحبيب الرحمن وشفيعنا يوم القيامة والفرقان. لقد أقام رسول الله [ مجتمعا متحابا في الله بعد أن اقتلع من النفوس همسات الحقد، ونزعات البغض ووساوس الكراهية، وبعد أن ألف القلوب وهداها إلي خالقها، فانشغلت بحمده، وتسبيحه، والثناء عليه، وتمجيده، وبعد أن شفي النفوس من أمراضها التي مزقتها من قبل إربا. كما صور ذلك رسول الله [ في حديثه الشريف وقال: »دب إليكم داء الأمم قبلكم، والبغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة، ليس حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتي تؤمنوا ولا تؤمنوا حتي تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم ؟ - أو ألا أدلكم علي عمل ...؟- أفشوا السلام بينكم«. وقد قرن رسول الله[ في هذا الحديث الشريف.. الإيمان بأسمي عاطفة لينالوا به أنبل غاية يوم اللقاء.. هذه الغاية.. التي يجاهد العبد المؤمن لها نفسه.. ويقوم للفوز بها ليله.. ويصوم لها نهاره. الحب في الله هذه الغاية.. طريقها الإيمان.. والإيمان طريقه الحب في الله.. كما بين ذلك رسول الله [ في أحاديثه الشريفة، والتي ربط بها قلوب أصحابه رضوان الله عليهم.. برباط الحب. وبين لهم فيها مقام المتحابين عند ربهم.. ومدي ماينعمون به من أمن وأمان يوم لقائه وقال: إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء.. ولا شهداء.. يغبطهم الأنبياء والشهداء.. قيل من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله في غير أرحام.. ولا أنساب.. وجوههم نور.. علي منابر من نور.. لايخافون إذا خاف الناس.. ولايحزنون إذا حزن الناس.. ثم قرأ: »أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ«. ما أعظم الحب الذي زرعته فينا ياحبيب الرحمن.. وشفيعنا يوم القيامة والفرقان. كان نبع الحب في الوجود [.. قدوة ومثلا للحب بكل صوره وسلوكياته ليكون مثلا للمسلمين.. حتي يوم الدين. أكثر أيامه صائما تقول عائشة رضي الله عنها.. لم يمتلئ جوف النبي [ قط، وكان يطوي أكثر أيامه صائما وكنت أقول له، نفسي لك الغدا، لو تبلغت من الدنيا بما يفوتك، فيقول لي: يقول نبع الحب[: ياعائشة مالي وللدنيا.. إخواني أولو العزم من الرسل.. صبروا علي ماهو أشد من هذا.. فمضوا علي حالهم فقدموا علي ربهم، فأكرم مآربهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحي إن ترفهت.. أن يقصر بي غدا دونهم.. ومافي شيء أحب إليَّ من اللحاق بإخواني وأخلائي. ولهذا كان يربي نبع الحب في الوجود [ نفسه ويروضها علي الفقر، والجوع، والقصد في المطالب والرغبات، ليكون المثل، والقدوة لما أراده الإسلام.. دين الاعتدال.. والتوسط.. فلارهبانية.. ولا قتل للنفس، ولاتهالك، وإطلاق للشهوات وإنما توسط واعتدال.. وبذلك ينجو الإنسان من سيطرة نفسه، ومن سيطرة الآخرين.. فلايعود لأحد سيادة عليه.. وهذه هي الحرية.. وحب الله العظيم.. سبحانه وتعالي. أن يحرر نفسه من جميع المطالب.. فلا يعود يسمح لشهواته أن تذله لمطعم أو ملبس، مخلوق. هذا الوسط.. هذا الصراط المستقيم الدقيق.. أدق من الشعرة بين الإفراط والتفريط.. هو ما انفردت به الشريعة.. وما حققه نبع الحب في الوجود [. ما أعظم هديك يارسول الله.. يانبع الحب في الوجود وما أروع أمثلة الحب التي تقدمها لنا لتكون هادية لنا في الحياة. السلام تحية الملائكة إن السلام.. هو تحية الملائكة لأهل السلام.. تزفهم به إلي دار السلام.. تحقيقا لقوله تعالي: »وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَي الْجَنَّةِ زُمَرًا ? حَتَّي إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَاَ سلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ« صدق الله العظيم. وبالسلام يتطهر العبد المؤمن من ذنوبه، وتتناثر خطاياه كما يتناثر ورق الشجر، كما حدثنا بذلك رسول الله[ وقال: »إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه، وأخذ بيده فصافحه.. تناثرت خطاياهما.. كما يتناثر ورق الشجر«. وأوصي رسول الله [ أتباعه بإفشاء السلام في كل لحظة وحين، فامتثلوا لهذا الأمر حتي صار السلام سمة من سمات العبد المؤمن، ولازمه لاتفارقه، وعنصرا من عناصر شخصيته.. إن أغفلها أغفل سُنة من سُنن الرسول [ وهديا من هديه. لذلك التزم الصحابة رضوان الله عليهم بأحاديثه التي دعاهم بها حيث قال: »إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة، أو جدار، أو حجر، ثم لقيه فليسلم عليه«. وإفشاء السلام يعني في المقام الأول السلام النفسي الذي يعبر عنه المسلم بكلمات التحية التي أمرنا الله ورسوله بها. ما أعظم رحمتك.. وحبك.. ياحبيب الرحمن وشفيعنا يوم القيامة والفرقان.