ما يحدث في سوق الدواء يحتاج لحسم سريع. لكنه يحتاج أكثر إلي مراجعة السياسات الاقتصادية التي أدت بنا إلي هذا الوضع الذي تمثل قضية الدواء نموذجا مثاليا له!! الحسم السريع مطلوب.. فالقضية تمس كل مواطن.. وما يحدث من صراعات المصالح لا يمكن أن يستمر فيما يتعلق بصحة الناس.. المستوردون وشركات الأدوية يقولون ان التكلفة زادت إلي الضعف علي الأقل، ويطلبون 50٪ زيادة في الأسعار علي الأقل.. ووزارة الصحة ترفض وتقول انهم يغالطون وأنهم حققوا أرباحا هائلة في السنوات الماضية وحان الوقت ليقفوا مع شعب مصر كما يقول الوزير وهو يعرف بالتأكيد أن هذا ليس منطق شركات أدوية أغلبها غير مصري!! ويقول وزير الصحة انه أخذ رأي الوزير الأسبق الدكتور محمد عوض تاج الدين الذي واجه أزمة مماثلة عام 2003 والذي أكد له أن الشركات يومها لم تتأثر كثيرا لأن أرباحها كبيرة بما يغطي أي ارتفاع في التكلفة أو في سعر الدولار!! لكن.. لابد من الاعتراف بأن الأوضاع تغيرت. وما فعله -علي سبيل المثال- الدكتور تاج الدين لدعم الصناعة الوطنية في وجه الاحتكارات الدولية يومها كان سببا في صمود صناعة الأدوية المصرية.. لكن، ما حدث بعد ذلك قلب الأوضاع رأسا علي عقب. فأكثر من نصف شركات الدواء العاملة في مصر ملك لشركات دولية. وحصة الشركات الحكومية لا تتجاوز 2.6٪!! والأسوأ من ذلك أن الاعتماد شبه كامل علي استيراد المواد الفعالة في الأدوية من الخارج، وأن الاهمال كامل للبحث العلمي ولتطوير صناعة الدواء علي أساس وطني. ولهذا أصبحت السطوة في يد الشركات العالمية، والسوق المصري يسيطر عليه جماعة المستوردين وفروع الشركات العالمية!! وما يحدث في صناعة الدواء، تواجهه صناعات عديدة وأساسية في مصر. وهي النتيجة الحتمية لسياسات خاطئة سرنا فيها منذ أطلقنا »الانفتاح السبهللي» في السبعينيات. وضربنا نموذج التنمية الذي كنا نسير فيه والذي تعلمت منه دول مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية بناء علي نصيحة المنظمات الدولية. جاء الانفتاح السبهللي ليضرب الصناعة المصرية أو يربطها بالاحتكارات العالمية الكبري »كما يحدث في صناعة الأدوية» والقصة معروفة.. اغراق الأسواق بالمنتجات المستوردة الرخيصة حتي يتم السيطرة علي السوق وضرب الصناعة الوطنية وبعدها يبدأ التحكم في الأسعار، ونبدأ في دفع فواتير اهمال الصناعة والزراعة، ونكتشف ان الأمر ليس أزمة طارئة في الأدوية أو غيرها من السلع الأساسية، بل هي انكشاف كامل لسياسات اقتصادية سرنا عليها أربعين عاما.. ضعفت فيها يد الدولة، وحوصرت الصناعة الوطنية، وتراجع الانتاج المحلي لمصلحة حيتان الاستيراد. والسؤال الآن: هل نواصل السير في هذا الطريق كما يريد البعض.. أم نتعلم من الأزمة ونعود مجتمعا ينتج ويفخر بما ينتجه، ويدرك أن الصناعة الوطنية هي قاطرة التقدم الاقتصادي؟! إذا لم نجد الإجابة في الأزمة الحالية، فلن نجده أبدا!!