أعترف بأنني أضحك حتي استلقي علي قفاي كثيرا، لكنه الضحك الأمرُّ من البكاء، من أفعال وأقوال ومواقف بعض السادة الموقرين أعضاء برلماننا الحالي، إذ تبدو لي مواقفهم وكلامهم وأفعالهم تجسيدا مدهشا لتلك الطرفة الخالدة التي تحكي عن رجل يهودي بخيل جدا مات ابنه، لكنه لم يشأ أن يترك هذه المناسبة القاسية الحزينة من دون الفوز بأية فائدة، لهذا نشر نعيا صاغه علي النحو التالي: الخواجة كوهين منشة ينعي ولده الحبيب ويصلح جميع أنواع وماركات الساعات!! هذه الطرفة التي تناقلتها الأجيال (دعك من الإيحاء الطائفي البغيض الراقد فيها) تجعلك تشك شكا عظيما إن كان الخواجة بطلها يقصد فعلا أن ينعي ابنه الميت أمام الناس، أم أنه يروج لصنعته وبضاعته طمعا في جلب المزيد من الزبائن؟! وبالقياس، فأنت أحيانا كثيرة لا تعرف هل معالي النائب الموقر الذي من هذا الصنف، يتمترس تحت قبة البرلمان خلف موقف معين لأنه مقتنع بمصلحة عامة يحققها، أم أن الأمر عنده مجرد »مصلحة» أو »غنيمة» والسلام، وقد لا تكون الغنيمة مادية دائما، بل ربما كانت أغلب غنائم »نوائبنا» المذكورين »معنوية»، كالفوز مثلا بلذة الانتقام من بعض الأشخاص أو فئات معينة (الصحفيون والإعلاميون المحترمون علي رأس القائمة) أو الانتقام من جمهور الشعب المصري عموما، فضلا عن التمتع بالظلام الدامس (لأنهم تربوا علي كراهية النور) وهو يرمي بثقله علي المجتمع كله. غير أنني أستأذنك عزيزي القارئ، أن أعود لأمثولة الخواجة كوهين وما فعله بمناسبة موت ابنه.. فالموت علي فجائعيته قد يكشف حقيقة نوازع بعض الناس، هكذا حكي الروائي الأمريكي حامل نوبل »وليم فوكنر» (1897 1962)، في قصة شهيرة له تحمل عنوان »as I lay dying»، ولكنه عندما جرت ترجمته إلي اللغة العربية تنوعت كلماته من نص لآخر، لكن العنوان الأكثر شهرة بين جمهور القراء المهتمين هو: »بينما أنا أحتضر». هذه الرواية ربما يكون »معمارها السردي» صعبا علي القراء العاديين، ويزيده صعوبة عمقها الفكري والفلسفي، ومع ذلك سأتجاسر وأختصرها (اختصارا مخلا قطعا) لكي أبرز معني أن الموت أحيانا يفضح الأحياء، وأن بعض هؤلاء الذين مازالوا يسعون علي أرض الحياة، قد ينقادون خلف ميت بزعم تنفيذ وصيته بدافع من مصالحهم ورغباتهم هم، ويتذرعون بجثة لم تندفن بعد. الحكاية التي تقوم عليها رواية »فوكنر» ربما تبدو للوهلة الأولي بسيطة تماما: أم فقيرة جدا من سكان ريف الجنوب الأمريكي، وبينما هي علي فراش الموت تبلغ أسرتها المكونة من زوج وخمسة أبناء، وصيتها أن يتم دفن جسمانها في عاصمة المقاطعة (مدينة أخترعها الكاتب تدعي »جيفرسون») التي يعيشون في إحدي قراها البائسة البعيدة، وإذ تموت الأم بالفعل فإن الرواية كلها تمضي بعد ذلك (عبر نحو 60 فصلا) في عرض المعاناة والصعوبات الهائلة التي تتجشمها تلك الأسرة المعدمة، علي مدي عشرة أيام أمضوها في طريق وَعر وبإمكانات شبه معدومة إلي أن وصلوا في النهاية إلي حيث المدفن الذي سيسجي فيه جثمان السيدة. ونحن نعبر فصول الرواية نعرف رويدا رويدا، أن حماس أفراد الأسرة للسير في هذه الرحلة الجنائزية المضنية والطويلة، ليست كلها ولا حتي أهمها، الوفاء للأم الميتة والالتزام بتنفيذ وصيتها، وإنما كل واحد منهم كان عنده إلي جانب »الوصية »، دافعه الخاص الذي أشعل حماسه وجعله يتشبث بإتمام مهمة صعبة تفوهت بها سيدة ترقد علي فراش الموت. يعني علي سبيل المثال، سنعرف أن سر إصرار وحماس زوج السيدة الميتة للذهاب بجثتها إلي المدينة البعيدة، هو رغبته في العثور علي امرأة أخري تحل محل الزوجة الميتة.. لأنه رغم الحزن الصادق، فإن الحياة لابد أن تسير، لأن»الحي أبقي من الميت». أما أحد الأبناء (يدعي »داريل») الذي يلعب في الرواية دور صوت الحكمة والناطق بالحقيقة، فهو يمشي في الجنازة الطويلة مترنما بأشعار وهرطقات تلامس حدود الهلاوس تفضح غايته الأصلية من المشاركة في الرحلة، إنها »كشف الزيف والنفاق» الذي يغلف حياة الأسرة والناس عموما.. غير أن حالته العقلية تتفاقم جدا في الطريق فلا يصل مع باقي العائلة إلي المحطة الأخيرة حيث القبر، ولكنه يستقر في مستشفي للأمراض العقلية. وأخيرا، فأن البنت الوحيدة في الأسرة، ما اهتمت وتحمست كل هذا الحماس للسفر مع جثمان أمها إلي المدينة البعيدة، لكي تذهب بالمرة إلي طبيب لإجراء عملية إجهاض بعدما حملت سفاحا من شخص أغواها قبل أسابيع قليلة من موت أمها!!