نظريًّا، فإن نظام الأستاذ حسنى مبارك وولده مات وشبع موتًا، لكن عمليًّا وحسب الواقع الذى نعيشه، يبدو هذا النظام، كأن جثته ما زالت تأبى الاستسلام لقدر الموت، وما زالت تعافر لكى تجرجر دولتنا ومجتمعنا إلى طريق الهلاك والخراب نفسه على كل الأصعدة تقريبًا (عدا العلاقات مع العالم الخارجى).. هذه الملاحظة التى أظن أن كثيرين يشاركوننى إياها، ذكّرتنى برواية رائعة للروائى الأمريكى حامل نوبل وليم فوكنر (1897 - 1962)، ترجمة اسمها «as I lay dying» إلى اللغة العربية، تنوعت كلماته من نص إلى آخر، غير أن الأكثر شهرة بين جمهور القراء المهتمين هو: «بينما أنا أحتضر». هذه الرواية ربما يكون «معمارها السردى» صعبًا على القراء العاديين، ويزيده صعوبة عمقها الفكرى والفلسفى، ومع ذلك سأتجاسر وأختصرها (اختصارا مخلا قطعا) لكى أبرز معنى أن الأموات يقودون الأحياء أحيانا، غير أن هؤلاء الذين ما زالوا يسعون على أرض الحياة، ينقادون للميت برغبتهم أساسا وبدافع من مصالحهم أصلا، وإن تذرعوا بجثة لم تندفن بعد. الحكاية التى تقوم عليها رواية «فوكنر» ربما تبدو للوهلة الأولى بسيطة جدا: أم فقيرة جدا من سكان ريف الجنوب الأمريكى، وبينما هى على فراش الموت تبلغ أسرتها المكونة من زوج وخمسة أبناء، وصيتها أن يدفنوا جسمانها فى عاصمة المقاطعة (مدينة اخترعها الكاتب تدعى «جيفرسون»)، التى يعيشون فى إحدى قراها البائسة البعيدة، وإذ تموت الأم بالفعل فإن الرواية كلها تمضى بعد ذلك (عبر نحو 60 فصلا) فى عرض المعاناة والصعوبات الهائلة التى تتجشمها تلك الأسرة المعدمة، على مدى عشرة أيام أمضوها فى طريق وَعر، وبإمكانات شبه معدومة، إلى أن وصلوا فى النهاية إلى حيث المدفن، الذى سيسجى فيه جثمان الأم. ونحن نعبر فصول الرواية نعرف رويدا رويدا، أن حماس أفراد الأسرة للسير فى هذه الرحلة الجنائزية المضنية والطويلة، ليست كلها ولا حتى أهمها، الوفاء للأم الميتة والالتزام بتنفيذ وصيتها، إنما كل واحد منهم كان عنده إلى جانب «الوصية»، دافعه الخاص، الذى أشعل حماسه وجعله يتشبث بإتمام مهمة صعبة، تفوهت بها سيدة ترقد على فراش الموت. يعنى على سبيل المثال، سنعرف أن سر إصرار وحماس زوج السيدة الميتة للذهاب بجثتها إلى المدينة البعيدة، هو رغبته فى العثور على امرأة أخرى تحل محل الزوجة الميتة.. لأنه رغم الحزن الصادق، فالحياة لا بد أن تسير و«الحى أبقى من الميت». أما أحد الأبناء (يدعى «داريل») الذى يلعب فى الرواية دور صوت الحكمة والناطق بالحقيقة، فهو يمشى فى الجنازة الطويلة مترنما بأشعار وهرطقات تلامس حدود الهلاوس، تفضح غايته من المشاركة فى الرحلة ألا وهى كشف الزيف والنفاق الذى يغلف حياة الأسرة والناس عموما.. غير أن حالته العقلية تتفاقم جدا فى الطريق، فلا يصل مع باقى العائلة إلى المحطة الأخيرة حيث القبر، لكنه يستقر فى مستشفى للأمراض العقلية. وأخير، فإن البنت الوحيدة فى الأسرة، اهتمت جدا بالسفر إلى مدينة «جيفرسون» مع جثمان أمها لكى تذهب بالمرة إلى طبيب لإجراء عملية إجهاض، بعدما حملت سفاحا من شخص أغواها فى قريتها!